قال رحمه الله تعالى: [قال عبد الله بن المبارك: لا تأخذوا عن أهل الكوفة في الرفض شيئاً، ولا عن أهل الشام في السيف شيئاً، ولا عن أهل البصرة في القدر شيئاً، ولا عن أهل خراسان في الإرجاء شيئاً، ولا عن أهل مكة في الصرف، ولا عن أهل المدينة في الغناء، لا تأخذوا عنهم في هذه الأشياء شيئاً].
هذا كلام جيد، وهذا ليس بأحكام، بل هو من باب الخصائص والسمات.
ولا شك أن المتأمل لأحوال الافتراق والفرق منذ نشأتها وإلى يومنا هذا يجد أن لها علاقة بالبيئات والمواطن، ولها علاقة بالأجواء السياسية والاجتماعية، فالأحداث والفتن في بقعة ما قد تتسبب في ظهور بدعة أو فرقة في هذه البقعة أو في هذا المكان أو في هذا الزمان، فهذه الخصائص موجودة في الحقيقة لكن ليست لازمة في كل الأزمنة، فهذا الذي ذكره كان في عهد عبد الله بن المبارك، وقد يكون هو الغالب في الأقاليم على وجه الاستمرار، لكن لا يعني أن هذه أحكام قطعية، إنما هذه ظروف أو أحوال عرفت من خلال الاستقراء التاريخي، فنجد أن الرفض بدأ في الكوفة، وهو الغلو في علي رضي الله عنه وفي آل البيت، والرفض صنعة مجوسية فارسية يهودية خالصة، والدليل على هذا أن الرافضة تعلقوا في أول نشأتهم بآل البيت، لكنهم أول من أساء وخذل آل البيت، وذلك حين انخدع بهم الحسين حتى خذلوه وقتل على أيديهم، وانخدع بهم علي بن أبي طالب قبله وأقبل إليهم لينصروه فخذلوه، ولجأ إليهم كثير من أئمة أهل البيت فخذلوهم، فهم من أرذل الناس وأخذلهم، وهذا مما يدل على أنهم ليسوا صادقين إذاً: الذي ليس بصادق يرجع إلى أصوله وعليه فإن الأصول العقدية للرفض راجعة إلى المجوس والفرس، والموطن موطن المجوس والفرس، وإن كانت الكوفة إنما أنشئت في عهد عمر بن الخطاب لكن أكثر من استوطنها طوائف من شذاذ الأمم والقبائل المختلفة، فبذرت بينهم بذور الرفض، فكانت البيئة جغرافياً وعقدياً واجتماعياً بيئة مناسبة للزنادقة الذين أنشئوا هذه العقيدة، وذلك قدر من أقدار الله، لكن مع ذلك يكون للبشر الذين جعل الله فيهم فتنة وابتلاء على العباد أثر في اختيار البيئات المناسبة لمثل هذه الأفكار، فالرفض فعلاً نشأ في الكوفة ولا يزال إلى يومنا هذا أقوى ما يكون في الكوفة أو ما حولها.
ثم قال: (ولا عن أهل الشام في السيف شيئاً)، يظهر من كلامه أنه يقصد أن أهل الشام منهم طوائف عندهم طاعة عمياء يطيعون في المعروف والمنكر، ولذلك كان في بعضهم غلو حتى زكّوا الفجار والظالمين، فمن هنا قد يكون رأيهم في هذا الأمر ليس معتبراً، لأنه لا يعرف أن أهل الشام أهل خروج، بل العكس كانوا أهل تعصب مع الحاكم.
(ولا عن أهل البصرة في القدر شيئاً) قدرية المعتزلة نشأت في البصرة، وترعرعت ونمت وعشعشت وفرّخت في البصرة، ثم انتقلت إلى بقية العالم الإسلامي.
(ولا عن أهل خراسان في الإرجاء شيئاً) أهل خراسان أغلبهم من أتباع أبي حنيفة رحمه الله، وأبو حنيفة مرجئ، فتعلق الأحناف بمذهب الإرجاء لأنه مذهب إمامهم، وأكثر ما تمكن في العصور الأولى في خراسان مذهب الأحناف، فتعلق المذهبان بعضهما ببعض من هذه الناحية، فكان أهل خراسان مرجئة غالباً لأنهم أحناف، والأحناف متعصبة في الإرجاء.
(ولا عن أهل مكة في الصرف شيئاً)، للصرف احتمالان: الاحتمال الأول الذي ذكره المحقق هو صرف العملات؛ لأن مكة تفد إليها جميع فئات المسلمين من كل بلد، وكل فئة معها عملة، فكانت الضرورة تلجئهم إلى أن يتساهلوا في الصرف، يأتي مغربي معه عملته فيضطر إلى أن يصرف بطريقة قد يكون فيها شيء من المعاملات التي فيها لبس، فالذي يظهر لي أن أهل مكة يوجد في تجارهم التساهل في مسألة صرف العملات لكثرة وفود الحجاج الذين تكثر عملاتهم وتتنوع فلا يكون هناك ضبط، والله أعلم.
الاحتمال الثاني: أن المقصود به الصرف السحري، ولا يعني هذا أن هذه الصفة غالبة على أهل مكة، لكن نظراً لأن مكة موئل لكثير من المسلمين، فيأتي إلى مكة من عندهم شيء من الشعوذة والدجل، ويقتنصون الناس هناك نظر لأنهم أكثر حاجة في مكة بسبب الغربة، وهذه الغربة يكتنفها شيء من الجهل وقلة الفقه في دين الله عز وجل، فربما تكثر الشعوذة والدجل على أيدي الدهماء والعوام الذين يردون إلى مكة، والله أعلم.
(ولا عن أهل المدينة في الغناء)، كذلك لا يعني هذا أن المدينة اشتهرت بالغناء، لكن يعني ذلك أنه في فترة من الفترات وجد من تساهلوا في الغناء، لكن هؤلاء لا يكونون من علية القوم، والغالب أنهم من السفلة الذين يعيشون في أجواء معينة، وقد يشتهر تبتلى مدينة من المدن بشهرة اثنين أو ثلاثة ممن يعرفون بهذا، فيكون علماً بارزاً أو سمة بارزة في وقت من الأوقات وفي ظرف من الظروف، لا سيما بعد خروج أهل المدينة على يزيد بن معاوية حيث انتهكت المدينة وحصل فيها شيء من ضعف أهل الحل والعقد، وربما أدى هذا إلى ظهور الفجور في بعض الفترات، فكانت هذ