قال رحمه الله تعالى: [واعلموا -رحمكم الله- أن أصول البدع أربعة أبواب انشعب من هذه الأربعة اثنان وسبعون هوى، ثم يصير كل واحد من البدعة يتشعب، حتى تصير كلها إلى ألفين وثمانمائة وكلها ضلالة، وكلها في النار إلا واحدة، وهو من آمن بما في هذا الكتاب، واعتقده من غير ريبة في قلبه ولا شكوك، فهو صاحب سنة، وهو الناجي إن شاء الله].
هذا الكلام امتداد للفترة السابقة؛ لأنه عندما ذكر أن مما يميز صاحب السنة: تركه لما عليه أصحاب البدع، فذكر بعد ذلك أن أصول البدع أربعة، يعني: أن الأصول الكبرى التي انبثقت عنها البدع الأولى أربعة أبواب، ولم يذكرها على التفصيل لكنه أشار إليها إشارة، ويبدو لي أنه يقصد بذلك: أولاً: الغلو في الأشخاص الذي هو التشيع.
ثانياً: الغلو في الدين والعبادة الذي هو مذهب الخوارج.
ثالثاً: القدر الذي هو مذهب القدرية.
رابعاً: الخلل في مسألة الإيمان الذي هو مذهب المرجئة.
هذه الأصول الأربعة هي أصول البدع الأولى.
الشيعة انبثقت عنها فرق كبيرة وأصول كبيرة جداًَ إلى يومنا هذا: الرافضة الزيدية الشيعة المفضلة الشيعة المفترية الإسماعيلية وفرق الباطنية ومن سلك سبيلها، كل هذه انبثقت عن التشيع من الباب الأول وهو باب الغلو في الأشخاص وباب الشيعة.
ثم بعد ذلك التنطع في الدين والتشدد، وعبادة الله على جهل، هذا من أصول الخوارج وعليه كثير من الفرق أيضاً؛ لأن هذه الأصول ليست خاصة بالخوارج، فنزعة الخوارج موجودة في غالب الفرق، لكنها تختلف في التعبير عنها وربما يأخذون أصلاً ويتركون أصولاً.
وكذلك أصول القدرية تعتبر من أعظم أبواب الابتداع؛ لأن الكلام في القدر فتق الكلام في جميع قضايا الاعتقاد، فأصول الجهمية والمعتزلة أول ما بدأت في الحديث عن القدر، فالقدرية تجرءوا على الكلام في أقدار الله عز وجل وفي تقديره للعباد.
وتجرءوا على الكلام في علم الله وكتابته ومشيئته وخلقه، وتجرءوا بأن يعارضوا النصوص الشرعية بعقولهم وأهوائهم؛ فجرهم ذلك إلى الكلام في أسماء الله وصفاته وأفعاله.
فأصول القدرية تعتبر هي المرتكزات الأولى لظهور المعتزلة والجهمية والفرق الكلامية التي تلت، فيعتبر هذا الباب الثالث.
والباب الرابع: الإرجاء، وهو ما يتعلق بالحديث عن الإيمان، سواء ما يتعلق بتعريف الإيمان حقيقة الإيمان دخول الأعمال في مسمى الإيمان زيادة الإيمان ونقصانه الاستثناء في الإيمان.
أيضاً لوازم ذلك مما يسمى بالأسماء والأحكام، والحكم بالكفر والإسلام والإيمان والفسق والظلم والشرك، كل ذلك انبثق عن قضايا الإيمان والتي أخلت بها المرجئة، فظهرت لها وتشعبت لها مقالات، وظهرت لها ردود فعل من المذهب المقابل وهو مذهب القدرية.
أما ما ذكره الشيخ من أن هذه الثنتان وسبعون فهو من باب الظن، وليس من باب اليقين، وهو يشير بذلك إلى الفرق الثنتين والسبعين التي فارقت الجماعة، فهو يقول: إن هذه الفرق الثنتين والسبعين انشعبت من الأربع.
قال: (ثم يصير كل واحد من البدعة ينشعب حتى تصير إلى ألفين وثمانمائة قالة)، كأنه وزع المقالات على هذه، وهذا أيضاً من باب التقريب والظن، لا من باب الجزم، فإنا لا نستطيع أن نجزم أن هذا العدد منضبط، قد يكون الأمر أكثر أو أقل، لكن كما قال: (كلها ضلالة، وكلها في النار إلا واحدة)، أي: الفرق التي خرجت عن الجماعة كلها متوعدة بالنار، فهم من أهل الوعيد إلا واحدة، وهم أهل السنة والجماعة.
أنا ذكرت الشيعة والخوارج والقدرية والمرجئة؛ بناء على تقسيم الشيخ، وذكرت أن القدرية هي أصل ظهور علم الكلام.
وظهور علم الكلام نتجت عنه المعتزلة والجهمية، ثم الفرق الكلامية التي تلت.
حتى المشبهة في الحقيقة هي فرق كلامية، وليست فرقاً مستقلة، بل فرق كلامية عندها ردود فعل ضد الجهمية والمعتزلة، وكذلك الكرامية، وكذلك الأشاعرة والماتريدية والكلابية، كل هذه امتداد للنزعة الكلامية التي بدأت شرارتها في القدر؛ ولذلك كل فرق أهل الكلام عندها خلل في عقيدة القدر، فتشترك في هذا القاسم المشترك، يقل أو يكثر.