قال رحمه الله تعالى: [والعقل مولود، أعطي كل إنسان من العقل ما أراد الله، يتفاوتون في العقول مثل الذرة في السموات، ويطلب من كل إنسان من العمل على قدر ما أعطاه من العقل، وليس العقل باكتساب إنما هو فضل من الله تبارك وتعالى].
العبارات فيها شيء من الاضطراب؛ فقوله: (العقل مولود) يعني: أن العقل من خلق الله عز وجل وأنه فطري وكأنه بذلك يشير إلى مذاهب الفلاسفة وغلاة المتكلمين الذين يرون أن العقل قوة قديمة أزلية، وأنه فيض عن الله، وأنها راجعة إلى صفات الله عز وجل، أو أن العقل المطلق كائن مستقل له وجود غير وجود سائر المخلوقات، وغير ذلك من المذاهب.
فكأن الشيخ يريد أن يقول إن العقل موهبة فطرية، وهذا معنى (مولود)، أي: يولد كما تولد وينشأ كما تنشأ المواهب الأخرى في الإنسان، فالعقل كالذكاء والفطنة والحفظ والإدراك والإرادة وغير ذلك في الإنسان، فكل هذه مولودات مع الإنسان، وكل إنسان أعطي من العقل بقدر ما أراد الله له ذلك.
فمن الناس من عقله كامل، ومنهم دون ذلك ومنهم من يكون عقله ضعيفاً، وذلك كسائر القدرات والمواهب عند الإنسان.
أما قوله: (مثل الذرة في السموات) فلم أفهم له وجهاً.
وقوله: (ويطلب من كل إنسان من العمل على قدر ما أعطاه من العقل) يعني: أن الله عز وجل جعل العقل جزءاً من الاستطاعة التي كلف بها البشر، فالعقل مثل سائر مواهب البشر، فهو مثل الاستطاعة والقدرة العملية والقدرة على الحركة والقدرة على التفهم والذكاء والفطنة والحفظ وغير ذلك، فهذه مواهب تتفاوت عند الإنسان، وكل إنسان يكلف بقدر استطاعته، وبقدر ما أعطاه الله من المواهب، فالإنسان الذي أعطاه الله عقلاً كاملاً عليه من التكاليف بقدر ذلك.
والإنسان الضعيف العقل ربما يعفى من كثير من أمور الشرع التي لا يفهمها أو لا يدركها عقله.
إذاً: على قدر هذه النعمة التي يعطيها الله الإنسان يكون محاسباً على ذلك، ولا يحاسب إلا على ما يستطيعه مما يعقله، ولذلك نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم يعذر بعض البسطاء إذا لم يدركوا بعض أصول الشرع أو بعض أموره؛ لأنهم لا يستطيعون، وبعضهم قد لا يدرك بعض ما نسميه بدهيات لضعف مداركه، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
إذاً: كل إنسان يطلب منه من العمل من حيث المحاسبة والتكليف الشرعي على قدر ما أعطاه الله من العقل.
قوله: (وليس العقل باكتساب) يقصد بذلك أن التعقل والعقل لا يحصل بالرياضة مثلاً ولا يحصل بالتعلم، نعم مدارك العقل تزداد بالتجارب فينتفع منها؛ لكن العقل على حد واحد، فالإنسان الذي عقله ضعيف مهما تعطيه من المعلومات التي ليست في حدود عقله لا يدركها، والإنسان الذكي العاقل الحصيف يدرك أشياء كثيرة بالعقل، وعلى هذا فلا يستطيع الناس أن ينموا الموهبة الأساسية في العقل لكن الإنسان تزداد مداركه بالتدريب على أمور ممكن تنمى عنده المواهب.
قوله: (إنما هو فضل من الله تبارك وتعالى)، وهنا أحب أن أنبه إلى أن مقاصد الناس تختلف في التعبير عن العقل، فقد يقصد بالعقل الموهبة الذاتية عند الإنسان، وهذا هو الغالب في تعبير النصوص الشرعية وكلام السلف، وهذه لا يمكن أن يزيد الناس فيها أو ينقصوا منها، وقد يقصد بالعقل وظائف العقل من التفكر والتعقل وازدياد المعلومات والثقافة، فهذه وإن سماها الناس عقلاً فإنما هي من وظائف العقل، وهي تزداد وتنقص بقدر ما يكسبه الإنسان.
لكن العقل الذي هو القدرة على التعقل والتفكر يقف إلى الحد الذي وهبه الله الإنسان، ثم تصقل وتهذب.