الجدل والمراء والخصومة وما يسمى الآن بالحوار، كلها تدور على معان متقاربة؛ لكن أشدها تحريماً وأبعدها عن الحق هو المراء، لأن الجدال إذا توافرت فيه الشروط وكانت الغاية منه غاية شرعية كالدعوة إلى الله عز وجل أو الانتصار للحق والدفاع عنه، فإنه جائز بالتي هي أحسن كما ذكر الله عز وجل، لكن لأن أغلب الجدال الذي يدور بين الناس ليس من هذا النوع فالأصل فيه المنع، أما المراء فهو مذموم كله؛ لأن المراء أمر زائد عن الجدل، فالمماراة والتماري والمراء هي المماحلة والتكلف وطلب الانتصار للنفس، وتكرار الحجج لغير حاجة، أو طلب المغالبة للخصم مع صرف النظر عن الحق.
والمناظرات جدل، فإذا توافرت فيها الشروط فهي جائزة، وقد تجب حيث لا يمكن تقرير الحق ولا الدفاع عنه إلا بها، ولذلك يحسن التنبيه إلى ما يجري في عصرنا الآن من المساجلات والمناظرات عبر وسائل الإعلام، وأن هذا من وسائل تقرير العقيدة والدفاع عنها، وأن طالب العلم له أن يشارك في حوار من هذه الحوارات إذا كان عنده القدرة وقد يلزمه ذلك إذا تعين الأمر عليه، كما إذا دُعي من جهة من يملك هذه الأمور، أو دُعي من جهة المشايخ الذين يأمرون طلاب العلم ولهم عليهم الأمر، أو واجه المشكلة مواجهة لا تبرأ الذمة بتركها، بحيث لو لم يتصد لدخل من هو دونه أو دخل مبطل يتكلم باسم الحق.
فيجب على طالب العلم أن يُسهم إذا توافرت فيه الشروط في الحوارات التي يكون فيها نصر للعقيدة ودفاع عن الحق، ولا يسعه الاعتذار.
أقول هذا لأن كثيراً من طلاب العلم يسألون الآن، وقد يكون عند بعضهم المقدرة لكنه يتورع أو يتهيب، فأقول: لا مجال للتورع في هذه الأمور ولا للتهيب، فإن الباطل ينتفش وأهله صاروا يتكلمون باسم الحق، وتصدى لكثير من أهل الباطل من ينتسبون للسنة وفيهم ضعف وجهل وقلة فقه، فصار دخولهم في هذا المجال خذلاناً واضحاً للحق، وقد سمعنا أن كثيراً من المساجلات والمناظرات التي جرت عبر بعض وسائل الإعلام من جهة أناس ضعاف تسببت في إرباك الناس في فهمهم للعقيدة، وتسببت في إظهار أهل الباطل بمظهر صاحب الحجة الذي يملك زمام المبادرة، وأن الدليل والحجة في وصفه، وسمعت هذا من كثير ممن شاهدوا وسمعوا، حتى أن بعضهم من طلاب علم ومع ذلك يأتون بشيء من الانهزامية والضعف، وبعضهم صار يشكك في مبادئه ومسلّماته العقدية وفي فهمه لمنهج السلف.
فهذه المناظرات إذا توافرت شروطها عند طالب العلم وعرف شروط المجادلة بالتي هي أحسن، فيجب عليه أن يشارك ولا يسعه أن يعتذر.
هناك مجالات يجوز فيها الحوار والجدال إذا توافرت الشروط، من هذه المجالات: إذا كان المقصود تقرير الحق أو تعليم الناس، أي أنه يجوز للمعلم أن يستعمل أسلوب المحاورة مع طلابه، حتى وإن افترض الأسئلة افتراضاً أو أعاد المسألة أكثر من مرة ما دام القصد التعليم، ليفتّح أذهان السامعين ويبيّن لهم وجوه الاستدلال ويدفع عنهم الشبهات المحتملة، فالحوار بين الشيخ وطلابه، وكذلك بين الطالب وزملائه إذا كان المقصود به إحقاق الحق من الطرفين ولم يصل إلى مستوى المراء فهو جائز، بل هو من وسائل التعليم التي تكون مرغوبة شرعاً.
محاورة أهل العلم فيما بينهم ومراجعة بعضهم لبعض لقصد التعلم أو الوصول إلى الحكم الشرعي، أو الوصول إلى الحق، أو المعرفة المفيدة أصل لا غبار عليه، أما إذا قُصد المخاصمة والمغالبة أو الانتصار للرأي أو للحزب أو للجماعة، أو للتشفي بالغير، فإن الأصل فيه المنع حتى وإن كان صاحبه يمثّل الحق فالوسيلة أن يكون التزم شروط الجدال الشرعية لكن غايته ليس نصر الحق إنما كشف الخصم والاستهتار به أو الإحراج أو نحو ذلك، هذا لا يجوز وإن كان صاحب حق، أيضاً من الأمور التي ينبغي أن يتنبه لها أنه من شروط الجائز أن يكون المجادل عالم بما يقول عالم بالدليل كان يجهل الدليل فلا ينبغي له أن يدخل بمجرد أنه مقتنع أو مقلد، فالمقلد لا يجوز له أن يحاور، فلابد أن يكون المحاور ملماً بالمسألة في أصلها ودليلها ووجه الاستدلال؛ لأنه لا يمكن أن يطمئن أن هذا هو الشرع إلا بذلك فلا يحاور، نعم كونه يقتنع برأي شيخ متبع لا حرج فيه، لكن إذا دخل في الحوار والجدال فلا يجوز له أن يجادل إلا إذا فقه المسألة، وعرف الدليل ووجه الاستدلال.
ثم من شروط المجادلة المقدرة العقلية والبيانية: بعض الناس عنده علم ولا يفوته الدليل ولا وجه الاستدلال في مسألة ما، لكنه يعرف من نفسه أنه إذا تصدى في المجادلة للخصم قد يرتبك وتخونه العبارة فإذا لم يجد في نفسه الأهلية من ناحية المقدرة البيانية حتى وإن كان عالماً فلا يجوز له أن يدخل في حوار مع خصم قوي أمام الملأ.
ثم لابد من العدل في القول والإنصاف في الحكم: أي: لابد للمجادل أن يقصد العدل مع الخصم، فإذا كان مع الخصم شيء من الحجة أو شيء من الحق فليعترف به، وليوطن نفسه أنه لو تبين له أن خصمه هو المحق أن يعلن ذلك أمام الملأ ولا يقول: لست مستعداً لأن أنهزم، أو يراوغ أو يحيد، لأن الحيدة تعتبر بعداً عن العدل والإنصاف في الحكم.