قال المؤلف رحمه الله: [البيعان بالخيار ما لم يتفرقا بأبدانهما]، يبين المصنف أن الفراق بين البائع والمشتري يحدث بالأبدان وليس بالأقوال.
مثال ذلك: اشتريت من مكتبة سلعة، وظللت فيها ساعة بعد الشراء وإعطاء البائع المال، فهل تفرقت الأبدان في هذه الحالة أم لم تتفرق بعد؟
صلى الله عليه وسلم لم تتفرق بعد، فلي أن أرجع الكتاب طالما لم نتفرق، وإن تفرقنا ولم نتفق على الخيار؛ فليس لي حق الإرجاع إلا أن يقبل هو.
مثال آخر: رجل اشترى سلعة وأخذها إلى البيت، ثم عاد إلى البائع يريد أن يردها لا لعيب فيها، فإما أنه اشترى بالخيار أو اشترى بغير خيار، فإن كان بغير الخيار فليس له حق، وإن كان بالخيار فله حق.
قال: [البيعان بالخيار ما لم يتفرقا بأبدانهما؛ لما روى ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، وكانا جميعاً أو يخير أحدهما الآخر؛ فيتبايعا على ذلك فقد وجب البيع)، متفق عليه].
ومثال على ذلك: لو أني كنت أنا في طائرة متوجهة من مصر إلى ألمانيا تأخذ ست ساعات أو سبع ساعات في الطريق، واشتريت من تاجر في الطائرة سلعة، وأعطيته الثمن، فتم البيع واتفقنا، فهل تفرقت الأبدان أم لم تتفرق؟ لم تتفرق؛ فلي حق الرد إلى أن أصل إلى ألمانيا.
فعند ذلك يقول البائع: أنت لست بالخيار؛ لكي يقطع في البيعة، لأنه ما لم تتفرق الأبدان فلا زال للمشتري حق الرد، وقد يكون الخيار لأحدهما، كأن يقول البائع للمشتري: لك الخيار، أما أنا فلا، اتفقنا، أو يقول: لي الخيار وليس لك، اتفقنا، والمؤمنون عند شروطهم، فإن كان الخيار لأحدهما فلا بأس.
والخيار يكون في عقد البيع، ولا يكون في الرهن، ولا في القرض، ولا في المساقاة، ومعنى المساقاة: رجل أعطى رجلاً زرعه ليسقيه له مقابل جزء من الزرع؛ هذه هي المساقاة، ولا خيار فيها، كذلك لا خيار في القرض.
مثال ذلك: أعطيتك مبلغاً من المال قرضاً على أن تعطيني رهناً مقابل هذا القرض، فأحدهما يلزمه أن يقدم الرهن، والآخر الذي أقرض الرهن عنده، فهنا يمكن أن يتنازل بمحض إرادته عن الرهن، فالخيار لا يكون إلا في عقد البيع.
قال: (فإن تفرقا ولم يترك أحدهما البيع؛ فقد وجب البيع).
مثال ذلك: ذهبت لشراء مسجل، واشتريته بخمسين جنيهاً، ودفعت المبلغ، واتفقنا على الثمن، وعاينت السلعة معاينة نافية للجهالة، وقلبتها يميناً ويساراً، وضعت فيه شريطاً، وجربت الشريط تقديماًً وتأخيراً، فاتفقنا وأخذت المسجل وتفرقنا؛ فأصبح البيع ملزماً لي وله، وبعد ساعتين لم يعجبني المسجل، فأردت أن أرده، فهل لي حق في هذه الحالة؟
صلى الله عليه وسلم لا، إلا إذا اشترطت.
كذلك السمن وأمثاله مما قد يكون مغشوشاً، فلو قلت أثناء الشراء: أنا بالخيار، فإن كان السمن جيداً لا فساد فيه لن أرجعه، وإن كان فيه فساد أرجعته لك، فالأصل في السلع المغلقة الخيار أثناء الشراء.
كذلك البطيخ بالخيار، فعندما تشتري بطيخة قل له: أنا بالخيار بعد أربع ساعات، إن وجدتها بيضاء فهي لك وتعطيني مالي، وإن كانت حمراء فهي لي.
وعلى ذلك إذا فتحتها فوجدتها بيضاء يحق لك أن تعيدها إلى البائع وتأخذ نقودك؛ لأنك قد اشترطت عليه بالخيار.
إذاً: الخيار يحل مشاكل عديدة، وإن لم تشترط الخيار فقد نفذ البيع وتم، ولا حق لك في أن ترد السلعة إلا إذا أقالك، والإقالة: أن يقبل البائع أن يرد السلعة.
قال: [والتفرق يكون بالأبدان، فإن ابن عمر كان يمشي خطوات حتى يلزمه البيع إذا أراد لزومه، ولا خلاف في لزومه بعد التفرق، والمرجع فيه إلى عرف الناس وعاداتهم].
طالما أن الشرع لم يضع حداً للتفرق فالعرف يحكم، مثال ذلك: كنت في هذه المكتبة، فأخذت كتاباً ثم انطلقت به بعد أن عاينت ودفعت السعر إلى البائع، فهنا تفرقنا، فإن كنت ما زلت أتنقل بين المكتبات القريبة من المكتبة التي اشتريت منها الكتاب ففي هذه الحالة لم نتفرق بعد، والعرف هو الذي يحكم، كما أن التفرق في الطائرة يختلف عن التفرق في الأسواق؛ لأن العرف هو الذي يحكم.
ولذلك يقول: [ولا خلاف في لزومه بعد التفرق]، يعني: بعد التفرق يلزم البيع البائع والمشتري، إلا أن يكون البائع قد تفرق لحيلة، كأن يكون باعك السلعة وقبض الثمن، وقبل أن تشترط عليه قال: أستأذنك لحظات سأذهب ثم آتي، وتفرق عنك وأنت ما زلت في المحل؛ لينفي شرط الخيار، ففي هذه الحالة يعامله الشرع بضد مقصوده؛ لأنه أراد أن يحرم المشتري من شرط الخيار بسرعة التفرق، وهذه حيلة غير مشروعة، وهنا يعامل بضد مقصوده.
قال: [لأن الشارع علق عليه حكماً ولم يبينه؛ فدل على أنه أبقاه على ما يعرفه الناس كالقبض والإحراز، فالتفرق العرفي هو التفرق بالأبدان، كذلك فسره ابن عمر، وتفسيره أولى؛ لأنه راوي الحديث]، إذاً: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا بأبدانهما.