يقول المصنف: [ثم يرجع إلى منى ولا يبيت لياليها إلا بها]، أي: أن الحاج بعد أن يرمي جمرة العقبة، وبعد أن يذبح ويحلق يعود إلى منى، فيبيت بها.
قال الشارح: [وذلك أن السنة لمن أفاض يوم النحر أن يرجع إلى منى، قالت عائشة رضي الله عنها: (أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر)]، يعني: صلى الظهر بالمسجد الحرام، ثم طاف للإفاضة ثم عاد إلى منى.
قال الشارح: [(ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي التشريق)، رواه أبو داود.
وروى أحمد عن عبد الرزاق عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى)].
وهنا ننبه إلى أنه لا يلزم الحاج أن يطوف طواف الإفاضة يوم النحر؛ لأن وقت طواف الإفاضة يمتد إلى آخر ذي الحجة، فبعد تحلله الأصغر برمي جمرة العقبة، وبالذبح ثم الحلق؛ يكون قد تحلل تحللاً أصغر، فيجوز له كل شيء إلا النساء، فالنساء لا تحل له إلا بعد التحلل الأكبر، هذا يسمى التحلل الأصغر، وهو أن يفعل أمرين من ثلاثة: الرمي، والذبح، والطواف.
والحلق لا يحسب ولا يعد.
فإن فعل من هذه الثلاثة اثنين؛ فقد تحلل تحللاً أصغر، ويلزمه أن يعود فيبيت في منى ليالي التشريق، وهي: ليلة الحادي عشر من شهر ذي الحجة، وليلة الثاني عشر، وليلة الثالث عشر لمن أراد أن يتأخر، يقول تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:203]، ونفي الإثم من صيغ الإباحة في علم أصول الفقه يعني: أنه يستوي الفعل مع الترك.
قال الشارح: [(ثم رجع فصلى الظهر بمنى)، والمبيت في منى ليالي منى واجب]، يعني: ليالي التشريق المبيت بمنى واجب.
قال الشارح: [وهي إحدى الروايتين عن أحمد]، أي: أن الحاج إذا ترك المبيت بمنى يلزمه دم؛ لأنه ترك واجباً، فالمبيت في منى واجب، ورمي الجمرات في أيام التشريق واجب مع جمرة العقبة.
وقد سمعتم ما يحصل من زحام شديد عند الجمار فيسبب ضحايا، والأمر يحتاج إلى تأمل من فقهائنا، إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرمي جمرة العقبة ثم يقف فيدعو طويلاً بمقدار ما يقرأ سورة البقرة، فهل يتيسر للحاج هذا الأمر في هذه الأيام؟ لا يمكن.
ثانياً: إن منى مساحتها ضيقة، لا يمكن أن تتسع لمليوني حاج في وقت واحد؛ فإن الواجبات تسقط بالعجز كما يقول العلماء، والمشقة تجلب التيسير: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78].
إن الجمود عند بعض النصوص وإن كان فيها تهلكة للأمة، لم يأمر به الله عز وجل.
قال الشارح: [لما روى ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للعباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته)، متفق عليه]، وكونه يرخص للعباس مفهوم المخالفة أن من سوى العباس يجب عليه المبيت.
والنبي صلى الله عليه وسلم رخص للعباس ليبيت بمكة من أجل السقاية، فمن عدا العباس ليس له رخصة، هذا مفهوم المخالفة، ومفهوم المخالفة في أصول الفقه لا يُعمل به إلا بشروط؛ لأن البعض قد يستنبط من الآيات مفهوم المخالفة، والآية ليس لها مفهوم مخالفة، كما في قوله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} [النور:33]، قال قائلهم: الإكراه لا يجوز، فمفهوم المخالفة أن الرضا يجوز، وكما قلنا: إن الآية ليس لها مفهوم مخالفة، وكما في قول الله عز وجل: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء:31]، غالب فعلهم أنهم كانوا يقتلون أولادهم خشية إملاق؛ فجاءت الآية بهذا فخرجت مخرج الغالب، فليس لها مفهوم مخالفة.
فمن شروط مفهوم المخالفة: أن لا يخرج الكلام مخرج الغالب.
قال الشارح: [وتخصيص العباس بالرخصة من أجل السقاية دليل على أنه لا رخصة لغيره.
وروى ابن ماجه عن ابن عباس قال: (لم يرخص النبي صلى الله عليه وسلم لأحد أن يبيت بمكة إلا العباس من أجل سقايته).
وروى الأثرم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر رضي الله عنه قال: لا يبيتن أحد من الحجاج إلا بمنى]، وكثير من الحجاج المصريين بعد أن يرموا جمرة العقبة لا يرجعون إلى منى، ولكنهم يجلسون عند الجمرات ثم يعودون إلى الفندق، فهم بهذا يتركون واجباً، والواجب أن يقضوا في منى أكثر من نصف الليل، فإذا دخلوا إلى منى بعد الغروب وبقوا فيها إلى الثانية بعد منتصف الليل، فيكونون قد قضوا غالب الليل وهذا جائز.
وأما ألا يبيت ف