الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويستحب تعزية أهل الميت]، وهذا على وجه الاستحباب لا الوجوب، كما يستحب لمن غسل ميتاً أن يغتسل، ولمن حمله أن يتوضأ، وقد قال العلماء: هذا ليس على سبيل الوجوب، وإنما على سبيل الاستحباب.
وأما التعزية فلما روى ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من عزى مصاباً فله مثل أجره).
حديث غريب.
ومن بدع التعزية ما يتردد على الناس من أنه: (لا عزاء بعد ثلاثة).
وهذا لا أصل له، وهو غير صحيح.
ومن بدع التعزية أيضاً: إقامة السرادقات والجلوس لقبول العزاء في دار المناسبات أو في بيت الميت، وهذا لم يؤثر عن السلف بحال؛ لأنهم كانوا يعتبرون الجلوس لتقبل العزاء من النياحة.
والتعزية من واجبات المسلم على أخيه المسلم، وأفضل صيغة للتعزية ما ورد في صحيح مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسلت له ابنته تخبره أن ابنتها قد ماتت -يعني: حفيدته- فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم مع الرسول قائلاً لها: مرها فلتصبر ولتحتسب)، يعني: قل لها: اصبري واحتسبي، فأفضل صيغة للعزاء أن تقول للمصاب: اصبر واحتسب.
فهذه الصيغة وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهناك صيغ طيبة لا بأس بها، والباب فيها واسع، مثل قولك: البقية في حياتك، وقد أفتى الشيخ ابن عثيمين بجوازها إن أراد بها قائلها: البقية في الأعمال الصالحة، وفي بعض القرى يقولون هذه الكلمة معتقدين أن الميت مات وقد ترك جزءاً من عمره، وقد أعطى هذا الباقي لمن تبقى من العائلة، وهذا الكلام خرافات، ولا ينبغي أن يكون أبداً.
وتكون التعزية بدون مصافحة؛ لأن المصافحة ما وردت في السنة، فكونك تجمع المصافحة مع التعزية فهذا يعني أنك جئت بشيء جديد، إنما قل: (اصبر واحتسب)، واربط على قلبه.
ولا يجوز بحال أن يجتمع أهل الميت كما يجتمعون الآن في سرادق ويأتون بقارئ يقرأ القرآن، والناس طوابير للعزاء، أو ما يفعل في بعض القرى حيث يقف أهل الجنازة طابوراً مكوناً من نحو خمسين رجلاً من العائلة، والجنازة مزدحمة، ويأتي الناس وكلهم يريدون أن يصافحوا ويعانقوا، فهذا كله بدعة.
فلا بد أن تكون التعزية وفقاً للسنة، وتكون في المسجد، وبالهاتف، وفي الطريق العام، وفي العمل، وحديث: (لا عزاء بعد ثلاثة) لا أصل له في السنة، وهذا مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم.
والتعزية عندنا الآن فيها من البدع الكثير والكثير، ولاسيما مجتمعات النساء وما يحدث فيها، فإنهن يجلسن للعزاء أربعين يوماً والخميس الكبير، والسنوية، ويتكلمون في المكبر: يحيي عائلة فلان بن فلان السنوية الكبيرة، ويعتقدون أن الروح ترد إلى الميت في اليوم الأربعين؛ فيحيون الأربعين لذلك، وينعون الميت نعي الجاهلية في الصحف، وينشرون اسمه وصورته، وتحت ذلك ابن العم وابن الأخت والخال والجد والكبير والصغير.
فهذه الأمور كلها من بدع الجنائز التي ما أنزل الله بها من سلطان، ونحن لا زلنا نصر عليها، وأفضل مقام تقيم فيه السنة إذا مات لك ميت، يعني: يوم أن يموت أبوك أو أخوك مثلاً، فأقم السنة في مأتمه؛ لأنه مأتم وليك، وليس لأحد دخل معك، فأنت حر، فاحمله على خشبة وانفي التابوت تماماً، وأقم الصلاة عليه في مصلى، وأعلمهم السنة، واجعل له لحداً، واغسله على السنة، فلا بد من تطبيق السنة وإن استغربها الناس، وليستغربوها أول الأمر، ثم بعد ذلك تسير الأمور على ما يرام.
ولعلكم تذكرون أن صلاة العيد في العراء واجهها كبار السن يوم أن ذكرنا أنها سنة، قالوا: إن السنيين جاءوا ببدعة، وظلوا يحاربون هذه السنة إلى أن أصبحت الآن مسألة مقررة، وتقام لها الساحات وتقنن، وتعد إعداداً.
فإقامة السنة تحتاج منا إلى صبر ومجالدة في أول الأمر، فإذا مات لك ميت فاحمله على خشبة، ولا تحمله على تابوت أو صندوق، هذا هو السنة، واغسله وكفنه على السنة، ومما يذكر في ترجمة ومناقب الشيخ ابن عثيمين رحمه الله أنه مات أبوه في العصر، فدفنه وعاد إلى الدرس في المغرب، ولم يقل: أجلس لتقبل العزاء؛ لأن هذا الفعل غير شرعي.
فالتعزية تكون في أي مكان، وأما الاجتماع والسرادقات وقراءة القرآن فليس من السنة في شيء، وعندنا الآن وسائل حديثة للتعزية، مثل: التلغراف، وهذه وسيلة طيبة، فاكتب مثلاً: اصبر واحتسب، أخوك فلان! ويمكن التعزية أيضاً بالهاتف وبالإيميل على الكمبيوتر.
وهناك وسائل متعددة والحمد لله.
ولذلك يقول العلماء: العالم ضاق، فيمكنك الآن أن تشاهد البرازيل وأنت في هذا المكان، فالعالم ضاق نظراً لثورة الاتصالات الهائلة في مجال المعلومات.
فوسائل التعزية المتعددة عندنا الآن كثيرة، ولكنك تجد في العائلة من يعارضك كثيراً جداً، ويقولون لك: هل تريد أن يموت أبوك كالفقراء دون مأتم.