قال المصنف رحمه الله تعالى: [ذكر أفراس رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أول فرس ملكه: السكب، اشتراه من أعرابي من بني فزارة بعشر أواق، وكان اسمه عند الأعرابي الضرس، فسماه السكب، وكان أغر محجلًا طلق اليمين، وهو أول فرس غزا عليه.
وكان له سبحة، وهو الذي سابق عليه، فسبق، ففرح به.
والمرتجز: وهو الذي اشتراه من الأعرابي الذي شهد له خزيمة بن ثابت، والأعرابي من بني مرة.
وقال سهل بن سعد الساعدي: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم عندي ثلاثة أفراس: لزاز، والظرب، واللحيف.
فأما لزاز: فأهداه له المقوقس، وأما اللحيف: فأهداه له ربيعة بن أبي البراء، فأثابه عليه فرائض من نعم بني كلاب، وأما الظرب: فأهداه له فروة بن عمرو الجذامي.
وكان له فرس يقال له: الورد، أهداه له تميم الداري، فأعطاه عمر، فحمل عليه، فوجده يباع.
وكانت بغلته الدلدل يركبها في الأسفار، وعاشت بعده حتى كبرت وزالت أسنانها، وكان يجش لها الشعير، وماتت بينبع، وحماره عفير مات في حجة الوداع.
وكان له عشرون لقحة بالغابة، يراح إليه كل ليلة بقربتين عظيمتين من لبن، وكان فيها لقاح غزار: الحناء، والسمراء، والعريس، والسعدية، والبغوم، واليسيرة، والريا.
وكانت له لقحة تدعى بردة، أهداها له الضحاك بن سفيان، كانت تحلب كما تحلب لقحتان غزيرتان.
وكانت له مهرة أرسل بها سعد بن عبادة من نعم بني عقيل.
والشقراء، وكانت له العضباء، ابتاعها أبو بكر من نعم بني الحريش، وأخرى بثمانمائة درهم، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعمائة درهم، وهي التي هاجر عليها، وكانت حين قدم المدينة رباعية، وهي القصواء والجدعاء، وقد سُبقت، فشق على المسلمين.
وكان له منائح سبع من الغنم: عجرة، وزمزم، وسقيا، وبركة، وورسة، وأطلال، وأطراف.
وكان له مائة من الغنم].
هذه الأخبار جملة بعضها قد لا يكاد يثبت، لكن الذي يعنينا حرص سلف الأمة رضي الله عنهم ورحمهم الله على كل ما يتعلق بنبينا صلى الله عليه وسلم، حتى إنهم دونوا ما كان يركبه صلى الله عليه وسلم، وما كان يملكه من الدواب، وهذا أمر محمود لهم، وقد كان السلف يعتنون بكل ما يتعلق به صلوات الله وسلامه عليه، وهذا يؤكد ما ذكرناه من قبل، أن من أحب شيئاً أحب ما يتعلق به.
أما ما ذكره المصنف فلا يلزم طالب العلم حفظ هذا كله، لكن المقصود أن تربط الأحاديث الفقهية أو غير الفقهية بما سمعت الآن في السيرة.
فمثلاً حديث خزيمة بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم: (اشترى فرساً من رجل من بني مرة)، ولم يكن هناك شاهد، فطلب الأعرابي شاهداً يشهد أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى منه هذا الفرس؛ لأن النبي عليه الصلاة السلام اتفق معه على سعر، ثم إن الأعرابي طمع في الزيادة فقال: أنا ما بعتك بهذا السعر، أريد سعراً أرفع، فقال النبي عليه الصلاة السلام: (إنك بعتني إياه) فلم يجد شاهداً، فجاء خزيمة بن ثابت رضي الله تعالى عنه وأرضاه وقال: أنا أشهد أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتراه منك بكذا وكذا، فلما شهد قال عليه الصلاة السلام: (كيف تشهد ولم تحضر؟! فقال: يا رسول الله! إنني أصدقك بخبر السماء، أفلا أصدقك أنك اشتريت فرساً من أعرابي بكذا وكذا؟!) فجعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين.
وهذا يسمى -إن صح التعبير- بعلم الاجتماع، وهو أن الإنسان يرزقه الله موهبة في انتهاز الفرص الحسنة، وذكرنا أمثلة على هذا من السيرة، فـ أبو أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه، عندما دخل النبي عليه الصلاة السلام المدينة، كان فيها حيان عظيمان الأوس والخزرج، فكان راكباً على الناقة، فيقول له الخزرج: هلم إلى هاهنا يا رسول الله، فيقول: (خلوا سبيلها فإنها مأمورة) فيقول الأوس مثل ذلك، فيقول: (خلوا سبيلها فإنها مأمورة) وتركها النبي صلى الله عليه وسلم حتى بركت، ولم ينزل ثم قامت وجالت جولة ثم رجعت وبركت في موطنها الأول.
ولم ينزل عليه الصلاة والسلام حتى لا يقولن قائل من الخزرج: لو نزل عند الأوس: مالأ علينا من أول يوم، ولو نزل عند الخزرج لقالت الأوس: مثل ذلك، وبقي على الناقة، فجاء أبو أيوب الأنصاري فعمد إلى متاع النبي عليه الصلاة السلام وأدخله بيته، فلما أدخله بيته حسم الأمر، فلما جاء الناس والمجاورون للأرض التي أصبحت بعد ذلك مسجداً يقولون: يا رسول الله! هاهنا، قال عليه الصلاة السلام: (المرء مع رحله) فظفر أبو أيوب رضي الله عنه وأرضاه بسكنى النبي عليه الصلاة السلام عنده دون غيره من الأنصار، وذلك بتفكيره وانتهازه للفرصة الحسنة هذه.
كذلك خزيمة بن ثابت كل الصحابة يصدقون النبي عليه الصلاة السلام بخبر السماء، لكن خزيمة استغل الأمر أكثر من غيره، وقال: أنا أشهد لك.
فلما قال هذا فالنبي عليه الصلاة السلام لم يرد شهادته، فظفر بأن شهادته صارت بشهادة رجلين رضي الله عنه وأرضاه.
وانتهاز الفرص من المناقب المحمودة في الرجال: إذا هبت رياحك فاغتنمها فإن لكل خافقة سكونا وإن درت نياقك فاحتلبها فلا تدري الفصيل لمن يكون وهذه أسباب يضعها الله تبارك وتعالى في الناس، هذا يصيب بها وهذا يخطئ، وسنن الله في الخلق أنه إذا أراد شيئاً هيأ أسبابه.
ذكر المؤلف عند العضباء، وهي القصواء، وهي الناقة الرئيسة التي كانت تحمل النبي عليه الصلاة السلام، والتي حملته في الهجرة، وحملته في الحج.
وهذه الناقة كانت لا تكاد تسبق، فجاء أعرابي بقعود، فسابق هذه الناقة وسبقها، فلما سبقها شق ذلك على الصحابة، ولماذا شق ذلك على الصحابة؟ من أحب شيئاً أحب ما يتعلق به.
الصحابة لا يعنيهم أن قعوداً يسبق ناقة، لكن شق عليهم وتغير حالهم لأن هذه الناقة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهنا جاء التأديب النبوي للأمة، وهذا من أعظم وسائل تربية الناس على التوحيد، أن يربوا عملياً، فإن متون التوحيد على جلالة قدرها أمرهاً عظيم، بلا خلاف، لكنه لا يدرس التوحيد بشيء أكثر من تدريسه عملياً، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الأمة التوحيد، فلما سبقت الناقة وتغيرت وجوه الصحابة، قال صلى الله عليه وسلم للصحابة (إنه حق على الله أن لا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه).
هذا هو التوحيد، فالشمس والقمر فتنة لناس، ولذلك كتب الله على الشمس والقمر الكسوف والخسوف، حتى يعلم أنها مهما بلغتا قابلتان للنقصان، وليس هناك وجه أشد نوراً من وجهه عليه الصلاة السلام، ومع ذلك يشج، وتكسر رباعيته، وينزل الدم منه؛ لأنه مهما بلغ فهو وجه مخلوق، كل من حولك من العظماء يريك الله جل وعلا فيهم آية تدل على أنهم بشر، وتجري عليهم أحكام البشر.
انظر إلى جمع من الممثلين والممثلات، ممن يوسمون بالجمال، غالبهم يموت بمرض يشوه جماله، وقد كان بعضهم فتنة في زمانه لكثير من النساء، فلما قربت وفاته أصابته أمراض حتى تغير وجهه، حتى إن أهله كانوا يخفون وجهه عن الناس، ولما مات جعلوا جنازته مستورة، حتى لا يرى الناس وجهه، بعد أن كان فتنة في شبابه.
فسنة الله في خلقه أن كل شيء مهما عظم يعتريه النقص، قال الله جل وعلا: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88].
وقال سبحانه: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
فكل عظيم مهما ارتقى ينزل، ونبينا صلى الله عليه وسلم لما ساد الجزيرة ودخل مكة فاتحاً، وخطب الناس في خطبة الوداع، وبلغ الأمر منتهاه؛ مرض وأصابته الحمى، وأصبح وهو سيد الخلق الذي جاهد في أرجاء الجزيرة كلها يعجز أن يصل إلى المسجد.
وهو عليه الصلاة والسلام أفصح من نطق الضاد، أفصح الفصحاء وسيد البلغاء، فأصبح يعجز أن يتكلم، ودعا لـ أسامة بصوت ضعيف، بل يرى السواك ولا يستطيع أن يقول: أعطوني السواك.
فسبحان ربنا الذي لا شيء مثله، ولا نظير له، ولا ند له، والذي يرينا عظمته وجلاله وكماله وقدرته، وأنه تبارك وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، يرينا هذه الآية في كل غدوة وروحة، لكن المتعظين بتلك الآيات قليل، جعلني الله وإياكم من أولئك القليل.