قال المصنف رحمه الله تعالى: [ذكر خدمه صلى الله عليه وسلم.
أنس بن مالك بن النضر الأنصاري، وهند وأسماء ابنا حارثة الأسلميان، وربيعة بن كعب الأسلمي، وكان عبد الله بن مسعود صاحب نعليه، كان إذا قام ألبسه إياهما، وإذا جلس جعلهما في ذراعيه حتى يقوم، وكان عقبة بن عامر الجهني صاحب بغلته، يقودها في الأسفار، وبلال بن رباح المؤذن، وسعد مولى أبي بكر الصديق، وذو مخمر بن أخي النجاشي ويقال: ابن اخته، ويقال: ذو مخبر بالباء، وبكير بن شداخ الليثي، ويقال: بكراً وأبو ذر الغفاري].
هؤلاء خدموا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ريب أنه قد أصابهم من الشرف مالا يعلم قدره إلا الله، فإن الله سخرهم رضي الله عنهم بأنهم ليكونوا خدماً لسيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه، وقد علموا أي شرف يكتسبوه، فلذلك كانوا يفتخرون رضي الله عنهم بأنهم كانوا يخدمون النبي صلى الله عليه وسلم، فخدمته عليه الصلاة السلام شرف عظيم، وتتفاوت المهام التي أوكلها النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، والعاقل إذا تبوء مكانة يختلف اصطفاؤه للرجال من واحد إلى آخر، فليس كل الناس يصلح لمهمة واحد، فقد يحسن الرجل مهمة ولا يحسن أخرى، ولذلك تفاوتت مهام خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأما أنس فهو الذي جاءت به أمه وهو صغير، ووهبته للنبي صلى الله عليه وسلم ليكون خادماً له، وقد دعا له النبي عليه الصلاة السلام بكثرة المال والولد، فتحققت دعوته عليه الصلاة السلام في أنس.
ولما جاءت خلافة عبد الملك بن مروان، وسلط الحجاج بن يوسف على مكة والمدينة، آذى الحجاج بن يوسف أنساً، فكتب أنس رضي الله عنه إلى عبد الملك وكان يومئذ أميراً للمؤمنين، يشكو تسلط الحجاج بن يوسف عليه، وكان فيما كتبه أنس أن قال: لو أن رجلاً من بني إسرائيل خدم موسى يوماً لعظمته بني إسرائيل، فكيف وقد خدمت نبينا صلى الله عليه وسلم عشر سنين؟! فبعث عبد الملك إلى الحجاج يأمره أن يكف يده عن أنس.
وقد كان من مهام أنس أن يذهب في الحوائج اليومية، يغدو ويروح في الحوائج اليسيرة، وقد نقل لنا أنس ما كان عليه الصلاة والسلام من خلق عظيم، فقال: (خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فلم يقل لشيء لم أفعله: لم لم تفعله؟ ولا لشيء فعلته لم فعلته) وهذا من جميل خلقه وكريم أدبه وحسن معاملته صلى الله عليه وسلم لمن حوله، من الأهل والخدم والموالي وسائر الناس.
وممن خدمه عليه الصلاة والسلام عقبة بن عامر، كان يقود له البغلة، وهو الذي أمره النبي صلى الله عليه وسلم في أحد أسفاره لما هبت ريح أن يتعوذ بالمعوذتين {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1]، وقال: (ما تعوذ متعوذ بمثلهما).
ومنهم بلال وهو مؤذنه وهو مشهور.
ومنهم ربيعة بن كعب الأسلمي، وكان من مهامه أن يضع الوضوء للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان يفعل هذا تطوعاً، فأحب النبي عليه الصلاة السلام أن يكافئه فقال: (يا ربيعة سلني! حاجتك، قال: يا رسول الله! أسألك مرافقتك في الجنة)، فقد وجد ربيعة من الشرف والحظوة عند رسول الله والفخر بخدمته له في الدنيا ما جعله يتطلع لأن يكون رفيقه في الجنة: (فقال له صلى الله عليه وسلم: فأعني على نفسك بكثرة السجود)، فدله على أن كثرة الصلوات تجعل العبد قريباً من جوار نبينا عليه الصلاة السلام.
ومن خدمه عليه الصلاة والسلام بكير بن شداخ الليثي وكان صغيراً، وقد نقل الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى عنه قصة مفادها أن بكيراً هذا كان يبعثه النبي عليه الصلاة السلام إلى بيوت أمهات المؤمنين، فلما بلغ واحتلم جاء إلى النبي عليه الصلاة السلام وقال: يا رسول الله! إنني بلغت مبلغ الرجال، فلا تبعث بي إلى نسائك، فتعجب النبي صلى الله عليه وسلم من صدقة وقال له: (اللهم صدق قوله وبلغه الظفر)، فكانت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم متحققة فيه، فلما كانت ولاية عمر بن الخطاب رضي الله عنه وخرج المجاهدون في أصقاع الأرض يحملون لواء الدين، كان ممن خرج أحد الأنصار وترك زوجته، وأوصى بكيراً بأهل بيته، فكان هناك يهودي يأتي إلى تلك المرأة ويراودها عن نفسها، فقام بكير فقتله، فوجد هذا اليهودي في أحد أحياء المدينة، مضرجاً في دمائه، فقام عمر رضي الله عنه وهو أمير المؤمنين على المنبر، فخطب خطبة ثم قال: أنشد الله كل رجل يعرف عن هذا القتيل شيئاً إلا أخبرني، فقام بكير والناس يسمعون وقال: أنا قتله يا أمير المؤمنين، فتعجب عمر من صراحته وجرأته، قال: ما دفعك إلى هذا؟ فأخبره القصة، فتذكر عمر دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فتركه، ولم يصنع به شيئاً إكراماً لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل دم اليهودي في هذه الحالة مهدراً.
والذي يعنينا أن بكيراً هذا خدم النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير، فهؤلاء جميعاً رضي الله عنهم وأرضاهم شرفوا بخدمة سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه.