إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا هو الدرس الخامس من تعليقنا على الدرة المضيئة في السيرة النبوية للإمام المقدسي رحمه الله تعالى، وكنا قد انتهينا بالأمس في ذكر أزواجه صلوات الله وسلامه عليه، وتكلمنا عن أكثرهن، ولم يبق لنا إلا الحديث عن زوجتين من أزواجه رضي الله تعالى عنهن وأرضاهن، وكما جرت العادة -استدراكاً لما كان بالأمس- نراجع بعضاً مما ذكرناه، فمما ذكرناه بالأمس أن الله أبطل عادة منع الزواج بالتبني بزواجه صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش، وقلنا: إن زيداً رضي الله تعالى عنه وأرضاه كان زوجاً لها، وأنها كانت تفخر عليه بأنها من قريش، ثم إنه جاء إلى النبي عليه الصلاة السلام يشتكي إليه زينب؛ فأنزل الله جل وعلا قوله في سورة الأحزاب: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا * وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب:36 - 37]، هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: {وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} [الأحزاب:37]، والذي أخفاه النبي صلى الله عليه وسلم وسيبديه الله هو زواجه من زينب، أي: أن الله أوحى إلى نبيه أن زينب ستكون زوجة له.
{وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37] الذي خشيه صلى الله عليه وسلم من الناس أن يقول الناس: تزوج محمد صلى الله عليه وسلم زوجة ابنه بالتبني.
كما ذكرنا أن من أزوجه صلى الله عليه وسلم أم حبيبة، وأنها كانت قبله تحت تحت عبيد الله بن جحش، وقلنا أنه فر بها من مكة إلى الحبشة فراراً بدينه، لكن وقع أنه تنصر، فعلى الإنسان أن يحرص على الأعمال التي تجعل الإنسان يظفر بحسن الخاتمة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي بن أخطب بن أبي يحيى بن كعب بن الخزرج النضرية، من ولد هارون بن عمران أخي موسى بن عمران عليهما السلام، سبيت في خبير سنة سبع من الهجرة، وكانت قبله تحت كنانة ابن أبي الحقيق، قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعتق صفية، وجعل عتقها صداقها، وتوفيت سنة ثلاثين وقيل: سنة خمسين].
صفية بنت حيي بن أخطب زوجة نبينا صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين، وحيي بن أخطب أحد زعماء يهود، فلما قدم النبي عليه الصلاة السلام المدينة رآه حيي فعرفه عرف أنه نبي، واليهود كانت تعرف صفات الرسول صلى الله عليه وسلم لما قرأت عنه في التوراة، وقد حدثت صفية بعد ذلك أن أباها وعمها التقيا بعد أن رأيا النبي عليه الصلاة السلام، فقال عمها لأبيها: أهو هو؟ قال: نعم، أعرفه بنعته، قال: فما في صدرك له؟ قال: عداوته ما بقيت! وهذا مصداق قول الله جل وعلا: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة:89]، وقال تبارك وتعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ} [البقرة:146]، أي النبي صلى الله عليه وسلم: {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146]، أي أن أهل الكتاب يعرفون النبي عليه الصلاة السلام ولا يخطئون في وصفه كما يعرف الرجل منهم ابنه، والرجل عادة لا يخطأ في معرفة ابنه.
وحيي ذهب إلى خيبر في الجلاء الأول، وهو من بني النضير، ثم وقعت معركة خيبر وكانت تحت صفية تحت كنانة بن أبي الحقيق فقتل، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها بعد أن أصبحت أمة له -جارية- فأعتقها وجعل عتقها صداقاً لها.
واختلف العلماء رحمهم الله هل يكون العتق صداقاً أو لا؟ فمنهم من قال: إن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من قال غير ذلك، والذي يعنينا في شرح السيرة هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتقها وجعل عتقها صداقها، سواء كان هذا خاصاً به، أو كان شاملاً لأمته.
وقد كانت جميلة رضي الله عنها وأرضاها، وهي من ولد هارون بن عمران أخي موسى على موسى وعلى هارون السلام، وقد أغضبتها بعض أمهات المؤمنين، فجاءت إلى النبي عليه الصلاة السلام تبكي، فقال لها عليه الصلاة السلام: (بما تفخر عليك؟! فإنك ابنة نبي، وعمك نبي -يقصد موسى- وإنك لتحت نبي) يقصد نفسه صلى الله عليه وسلم.
ولما تزوجها عليه الصلاة السلام في انصرافه من خيبر أراد أن يدخل بها على مقربة من خيبر فامتنعت وأبت، ثم لما تقدم قليلاً نحو المدينة قبلت ودخل بها صلى الله عليه وسلم، فسألها عن سبب امتناعها أولاً: فقالت: خشيت عليك من اليهود، وهذا يدل على أنه وقر في قلبها محبة الدين ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد خشي أبو أيوب الأنصاري على نبينا عليه الصلاة السلام يوم أن دخل عليها، فبات يحرسه، خوفاً أن يكون بها شيء من غدر يهود، فهو لا يعرفها، ثم تبين مدى حبها لنبينا صلى الله عليه وسلم وحسن إسلامها، فبقيت كذلك حتى توفاها الله جل وعلا، فهي زوجة نبينا في الدنيا والآخرة رضي الله عنها وأرضاها.