ولصعوبة هذا العلم ودقته ربما قصرت عبارة المعلل فلا يستطيع أن يعبر عما في نفسه!
قال ابن حجر: (وقد تقصر عبارة المعلل منهم، فلا يفصح بما استقر في نفسه من ترجيح إحدى الروايتين على الأخرى، كما في نقد الصيرفي سواء) .
ولهذا كله لم يتكلم في هذا العلم إلا قلة من فحول المحدثين، وندرة من النقاد المبرزين:
قال ابن حجر: (ولهذا لم يتكلم فيه إلا أفراد أئمة هذا الشأن وحذاقهم، وإليهم المرجع في ذلك، لما جعل الله فيهم من معرفة ذلك، والاطلاع على غوامضه، دون غيرهم ممن لم يمارس ذلك) .
بل كان النقاد في أزهى عصور السنة يشتكون من قلة من يحسن هذا العلم ويجيده! :
قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: (جرى بيني وبين أبي زرعة يوماً تمييز الحديث ومعرفته، فجعل يذكر أحاديث ويذكر عللها، وكذلك كنتُ اذكر أحاديث خطأ وعللها، وخطأ الشيوخ، فقال لي: يا أبا حاتم قلَّ من يفهم هذا، ما أعز هذا، إذا رفعت هذا من واحد واثنين فما أقل من تجد من يحسن هذا، وربما أشك في شيء أو يتخالجنى شيء في حديث فإلى أن التقي معك، لا أجد من يشفينى منه. قال أبي: وكذلك كان أمري) .
قال أبو محمد: قلت لأبي: محمد بن مسلم؟ قال: (يحفظ أشياء عن محدثين يؤديها ليس معرفته للحديث غريزة!) .
وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي وجرى عنده معرفة الحديث فقال: (أبو عبد الله الذي يحدث عنه محمد بن جابر، والذي يحدث عن سعيد بن جبير، وعن مصعب بن سعد، وعن زاذان هو مسلم الجهني، ومسلم البطين أيضاً: يكنى أبا عبد الله، غير أنه لا يحتمل أن يكون مسلم الملائي: يحدث عن مصعب بن سعد وعن زاذان.
ثم قال: ذهب الذي كان يحسن هذا _ يعني أبا زرعة _ وما بقى بمصر ولا بالعراق أحد يحسن هذا!! قلت: محمد بن مسلم؟ قال يفهم طرفاً منه!) .
فإذا تبين بعد هذا كله رفيع قدر، وجليل مكانته، وصعوبة الخوض فيه إلا لأهله الذين اختصهم الله بذلك، وأنه لم يتكلم فيه إلا أكابر النقاد = علمتَ حينئذ أنه لا بد من أخذ كلامهم في هذا العلم والتسليم لهم بذلك فيه:
قال العلائي: (الأئمة المتقدمين الذين منحهم الله التبحر في علم الحديث والتوسع في حفظه كشعبة و … وكذلك إلى زمن الدارقطني والبيهقي، ممن لم يجيء بعدهم مساوٍ لهم، بل ولا مقارب! ، فمتى وجد في كلام أحد من المتقدمين الحكم على حديث بشيء كان معتمداً، لما أعطاهم الله من الحفظ العظيم والاطلاع الغزير، وإن اختلف النقل عنهم عُدل إلى الترجيح) .
وقال ابن كثير: (أما كلام هؤلاء الأئمة المنتصبين لهذا الشأن، فينبغي أن يؤخذ مسلماً من غير ذكر أسباب، وذلك للعلم بمعرفتهم واطلاعهم واضطلاعهم في هذا الشأن، واتصافهم بالإنصاف والديانة والخبرة والنصح، لا سيما إذا أطبقوا على تضعيف رجل أو كونه متروكاً أو كذاباً أو نحو ذلك.
فالمحدث الماهر لا يتخالجه في مثل هذا وقفة في موافقتهم، لصدقهم وأمانتهم ونصحهم، ولهذا يقول الإمام الشافعي في كثير من كلامه على الأحاديث: (لا يثبته أهل العلم بالحديث) ويرده ولا يحتج به بمجرد ذلك) .
وقال ابن حجر: (فمتى وجدنا حديثاً قد حكم إمام من الأئمة المرجوع إليهم بتعليله فالأولى اتباعه في ذلك كما نتبعه في تصحيح الحديث إذا صححه.
وهذا الإمام الشافعي مع إمامته يحيل القول على أئمة الحديث في كتبه، فيقول: (وفيه حديث لم يثبته أهل العلم بالحديث) . وهذا حيث لا يوجد مخالف منهم لذلك المعلل، وحيث يصرح بإثبات العلة، فأما إن وُجد غيره صححه فينبغي حينئذ توجه النظر إلى الترجيح بين كلاميهما. وكذلك إذا أشار المعلل إلى العلة إشارة ولم يتبين منه ترجيح لإحدى الروايتين، فإن ذلك يحتاج إلى ترجيح، والله أعلم) .
وقال أيضاً: (وبهذا التقرير يتبين عظم موقع كلام الأئمة المتقدمين، وشدة فحصهم، وقوة بحثهم، وصحة نظرهم، وتقدمهم بما يوجب المصير إلى تقليدهم في ذلك، والتسليم لهم فيه) .