ولخفاء هذا العلم وغموضه، وصعوبة الخوض فيه لغير أهله المتخصصين فيه = كان نقاد الحديث يصرحون دائما بأن خفايا علمهم ودقائق فنهم لا تدركها كثير من الأفهام:
قال عبد الرحمن بن مهدي: (معرفة الحديث إلهام، لو قلت للعالم يُعَلِّل الحديث من أين قلت هذا؟ لم يكن له حجة) .
قال ابن نمير: (صدق لو قلت من أين؟ لم يكن له جواب) .
قال السخاوي بعد أن نقل عبارة ابن مهدي (لم يكن له حجة) : (يعني يعبر بها غالباً، وإلا ففي نفسه حجج للقبول والرفض) .
ويقول عبد الرحمن بن مهدي ـ أيضاً ـ: (إنكارنا الحديث عند الجهال كهانة) .
وقال أبو داود السجستاني: (وربما أتوقف عن مثل هذه ـ أي عن بيان العلل ـ لأنه ضرر على العامة أن يكشف لهم كل ما كان من هذا الباب فيما مضى من عيوب الحديث، لأن علم العامة يقصر عن مثل هذا) .
ولهذا كانوا يشبهون معرفتهم بهذا العلم ـ لمن هو ليس من أهله ـ بمعرفة الصيرفي للذهب:
قال الخطيب البغدادي: (المعرفة بالحديث ليست تلقيناً، وإنما هو علم يحدثه الله في القلب. ثم قال: أشبه الأشياء بعلم الحديث معرفة الصرف ونقد الدنانير والدراهم، فإنه لا يعرف جودة الدينار والدراهم بلون ولا مس ولا طراوة ولا دنس ولا نقش ولا صفةٍ تعود إلى صغر أو كبر ولا إلى ضيق أو سعة، وإنما يعرفه الناقد عند المعاينة، فيعرف البَهرج والزائف والخالص والمغشوش، وكذلك تمييز الحديث، فإنه عِلم يخلقه الله تعالى في القلوب بعد طول الممارسة له والاعتناء به) .
قال عبد الرحمن بن أبي حاتم سمعت أبي يقول: (معرفة الحديث كمثل فص ثمنه مائة دينار وآخر مثله على لونه ثمنه عشرة دراهم) .
وقال أحمد بن صالح: (معرفة الحديث بمنزلة الذهب ـ وأحسبه قال: الجوهر ـ إنما يُبصره أهله، وليس للبصير فيه حجة إذا قيل له: كيف قلت إن هذا بائن يعني جيداً أو رديئاً) .
وقال علي بن المديني: أخذ عبد الرحمن بن مهدي على رجل من أهل البصرة _ لا أسميه _ حديثاً، قال: فغضب له جماعة، قال: فأتوه فقالوا: يا أبا سعيد، من أين قلت هذا في صاحبنا؟ قال: فغضب عبد الرحمن بن مهدي، وقال: أرأيت لو أن رجلاً أتى بدينار إلى صيرفي، فقال انتقد لي هذا، فقال: هو بهرج، فيقول له: من أين قلت لي إنه بهرج؟ الزم عملي هذا عشرين سنة حتى تعلم منه ما أعلم) .
وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سمعت أبى رحمه الله يقول: (جاءني رجل من جلة أصحاب الرأي من أهل الفهم منهم ومعه دفتر فعرضه عليّ. فقلت في بعضها: هذا حديث خطأ، قد دخل لصاحبه حديث في حديث، وقلت: وفي بعضه: هذا حديث باطل، وقلت في بعضه: هذا حديث منكر، وقلت في بعضه: هذا حديث كذب، وسائر ذلك أحاديث صحاح. فقال لي: من أين علمت أن هذا خطأ، وأن هذا باطل وأن هذا كذب؟ أخبرك راوي هذا الكتاب بأني غلطت وأني كذبت في حديث كذا؟ فقلت: لا، ما أدري هذا الجزء من رواية من هو! ، غير أني أعلم أن هذا خطأ، وأن هذا الحديث باطل، وأن هذا الحديث كذب.
فقال: تدعي الغيب؟ قال: قلت: ما هذا ادعاء الغيب.
قال: فما الدليل على ما تقول؟ قلت: سل عما قلت من يحسن مثل ما أحسن، فإن اتفقنا علمت أنّا لم نجازف ولم نقله إلا بفهم.
قال: من هو الذي يحسن مثل ما تحسن؟ قلت: أبو زرعة. قال: ويقول أبو زرعة مثل ما قلتَ؟ قلت: نعم. قال هذا عجب.
فأخذ فكتب في كاغذ ألفاظي في تلك الأحاديث، ثم رجع إليّ وقد كتب ألفاظ ما تكلم به أبو زرعة في تلك الأحاديث، فما قلت: إنه باطل، قال أبو زرعة: هو كذب.
قلت: الكذب والباطل واحد. وما قلت: إنه كذب، قال أبو زرعة: هو باطل. وما قلت: إنه منكر، قال هو: منكر، كما قلت. وما قلت إنه صحاح قال أبو زرعة: هو صحاح.
فقال: ما اعجب هذا تتفقان من غير مواطأة فيما بينكما!! فقلت: فقد (كذا!) ذلك أنالم نجازف، وإنما قلناه بعلم ومعرفة قد أوتينا.
والدليل على صحة ما نقوله بأن دينار نبهرجاً يحمل إلى الناقد فيقول: هذا دينار نبهرج، ويقول لدينار هو جيد. فان قيل له: من أين قلت إن هذا نبهرج، هل كنت حاضراً حين بهرج هذا الدينار؟ قال: لا، فإن قيل له: فأخبرك الرجل الذي بهرجه أني بهرجت هذا الدينار؟ قال: لا، قيل: فمن أين قلت إن هذا نبهرج؟! قال: علماً رُزقت. وكذلك نحن رُزقنا معرفة ذلك.
قلت له: فتحمل فص ياقوت إلى واحد من البصراء من الجوهريين، فيقول: هذا زجاج، ويقول لمثله: هذا ياقوت. فإن قيل له: من أين علمت أن هذا زجاج وأن هذا ياقوت، هل حضرت الموضع الذي صنع فيه هذا الزجاج؟! قال: لا، قيل له: فهل أعلمك الذي صاغه بأنه صاغ هذا زجاجاً؟ قال: لا، قال: فمن أين علمت؟ قال: هذا علم رُزقت. وكذلك نحن رُزقنا علماً لا يتهيأ لنا أن نخبرك كيف علمنا بان هذا الحديث كذب، وهذا حديث منكر، إلا بما نعرفه.
قال أبو محمد (وهو ابن أبي حاتم) : تعرف جودة الدينار بالقياس إلى غيره، فإن تخلف عنه في الحمرة والصفاء علم أنه مغشوش، ويُعلم جنس الجوهر بالقياس إلى غيره، فإن خالفه بالماء والصلابة عُلم أنه زجاج.
ويقاس صحة الحديث بعدالة ناقليه، وأن يكون كلاماً يصلح أن يكون من كلام النبوة، ويعلم سقمه وإنكاره بتفرد من لم تصح عدالته بروايته، والله اعلم) .
قال السخاوي _ بعد أن ذكر القصة السابقة _: (وهو كما قال غيره، أمر يهجم على قلبهم لا يمكنهم رده، وهيئة نفسانية لا معدل لهم عنها، ولهذا ترى الجامع بين الفقه والحديث كابن خزيمة والإسماعيلي والبيهقي وابن عبد البر لا يُنكر عليهم، بل يشاركهم ويحذو حذوهم، وربما يُطالبهم الفقيه أو الأصولي العاري عن الحديث بالأدلة! ، هذا مع اتفاق الفقهاء على الرجوع إليهم في التعديل والتجريح، كما اتفقوا على الرجوع في كل فن إلى أهله، ومن تعاطى تحرير فن غير فنه فهو متعنى، فالله تعالى بلطيف عنايته أقام لعلم الحديث رجالاً نقاداً تفرغوا له، وأفنوا أعمارهم في تحصيله، والبحث عن غوامضه وعلله ورجاله، ومعرفة مراتبهم في القوة واللين، فتقليدهم والمشي وراءهم، وإمعان النظر في تواليفهم، وكثرة مجالسة حفاظ الوقت، مع الفهم وجودة التصور، ومدوامة الاشتغال وملازمة التقوى والتواضع = يوجب لك إن شاء الله معرفة السنن النبوية، ولا قوة إلا بالله) .