بين أن يؤدي الشهادة حسبة لله تعالى لقوله جل شأنه: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] وبين أن يتستر على الحادث لقوله عليه السلام: "من ستر على أخيه المسلم ستر الله عليه في الآخرة", فإذا سكت الشاهد عن الجريمة حتى قدم العهد عليها دل ذلك على اختياره جهة الستر, فإذا شهد بعد ذلك فإن هذه الشهادة المتأخرة دليل على أن ضغينة ما هي التي حملته على الشهادة, ومثل هذا الشاهد المشكوك فيه لا تقبل شهادته. ويؤيد الحنفية رأيهم بما روى عن عمر من قوله: أيما قوم شهدوا على حد لم يشهدوا عند حضرته - أي عند وقوعه - فإنما شهدوا عن ضغن ولا شهادة لهم. ويقولون: إنه لم ينقل أن أحداً من الصحابة أنكر على عمر هذا القول فيكون إجماعاً. ومن المستفاد من قول عمر أن الشهادة المتأخرة تورث التهمة ولا شهادة لمتهم على لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول: "لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين" أي متهم.
وإذا كانت الشهادة ترد أصلاً للمتهم فالمنطق أن لا ترد إذا انتفت التهمة, كما لو كان الشاهد تأخر لطول الطريق أو لمرض, ولكن لما كانت التهمة أمراً خفياً غير منضبط ومن الصعب التحقق منه في كل الأحوال فقد أقيم التقادم مقامها وأهمل شأن التهمة فلا ينظر إلى وجودها وعدمها, وعلى هذا ترد الشهادات بالتقادم ولو لم يكن هناك تهمة أو يأخذ على الشاهد.
وبعد أن قال الحنفية بالتقادم في الجريمة كان من السهل أن يقولوا به في العقوبة؛ لأن القاعدة عندهم أن الإمضاء من القضاء؛ أي أن التنفيذ متمم للقضاء, فوجب أن يتوفر عند التنفيذ ما يتوفر عند الحكم, وإذا وجب عند الحكم أن لا تتقادم الجريمة فقد وجب أن لا يكون التقادم عند التنفيذ (?) .
ولم يقدر أبو حنيفة للتقادم حداً وفوض الأمر فيه للقاضي يقدره طبقاً لظروف كل حالة؛ لأن اختلاف الأعذار يجعل التوقيت متعذراً. وقدره محمد بستة