من ارتكاب الجريمة فإن هذا الاحتمال وحده لا يكفي ما دام لم يثبت قطعاً أن العقوبة لم تردعه, فإذا ثبت هذا بأن ارتكب جريمة فعوقب عليها ثم عادلها بعد ذلك فقد وجب أن يعاقب على جريمته الأخيرة؛ لأنه قد تبين وجه اليقين أن العقوبة الأولى لم تكن زاجرة ولا رادعة للجاني.
ثانيهما: أن الجرائم إذا تعددت وكانت من أنواع مختلفة فإن العقوبات تتداخل ويجزئ عن الجرائم جميعاً عقوبة واحدة, بشرط أن تكون العقوبات المقررة لهذه الجرائم قد وضعت لحماية مصلحة واحدة؛ أي لتحقيق غرض واحد, فمن أهان موظفاً وقاومه وتعدى عليه عوقب بعقوبة واحدة على هذه الجرائم الثلاث التي وضعت عقوباتها لغرض واحد هو حماية الموظف والوظيفة, ومن تناول ميتة ودماً ولحم خنزير عوقب على هذه الجرائم الثلاث بعقوبة واحدة؛ لأن عقوبتها جميعاً وضعت لغرض واحد هو حماية صحة الفرد والجماعة.
والعبرة في التداخل بتنفيذ العقوبة لا بالحكم بها, فكل جريمة وقعت قبل تنفيذ العقوبة تتداخل عقوبتها مع العقوبة التي لم يتم تنفيذها.
ويرون في مذهب مالك أن عقوبة الشرب وعقوبة تتداخلان فلا يعاقب على الجريمتين عند التعدد إلا بعقوبة واحدة, وحجتهم في ذلك أن الغرض من العقوبتين واحد؛ لأن من شرب هذى ومن هذى افترى, فعقوبة الشرب وضعت إذن لمنع الافتراء, ولكن المذاهب الأخرى تخالف مذهب مالك في هذا المثل بالذات؛ لأن عقوبة القذف قصد بها حماية الأغراض وعقوبة الشرب قصد بها حماية العقول فكلتاهما وضعت لغرض يخالف الغرض الذي وضعت له الأخرى.
ويرى بعض المالكية أن التداخل بين عقوبة الشرب وعقوبة القذف يرجع إلى اتحاد مقدارهما, وهؤلاء يجعلون أساس التداخل اتحاد الموجب وليس اتحاد الغرض من العقوبة. ولكن ليس لهذا الرأي صدى في المذاهب الأخرى (?) .