يقرأون من كتبها الهمزية بشرحها لبنيس، فلذلك لا يستغرب أن يشذّ عن أبصارهم أمثال هذه الوظائف والمراتب والإدارات.

وربما استبعد ذلك آخرون من حيث أن الكتاب الذين تصدروا أخيرا للبحث في المدنية الإسلامية العربية ودونوا فيها المدونات العدة من المسلمين والمسيحيين غاية ما ينسبون من التمدن للإسلام؛ يذكرون ما وجد على عهد الدولة العباسية والأموية مثلا، مع ما أوجدته بعد ذلك ممالك العجم والديلم والترك والفرس والبربر وغيرهم، من ملوك الدول الإسلامية بالشرق والغرب. بل وربما كانوا يأتون بنسبة المدنية في الإسلام لبني العباس، ليتسنى لهم بعد التصريح بأنهم أخذوا ذلك عن اليونان والفرس، لا عن القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم. بل وقع لبعض الكتاب الشاميين في رسالة له في انتشار الأديان التصريح بأن التمدن الإسلامي قام عن الشريعة الإسلامية ولم يقم معها اهـ. وهو غلط فادح نتج لصاحبه عن جهله بالسير والحديث، أو من عدم تشخصه لحقيقة ينابيع المدنية التي جعل الحكماء أساسا لها. أما النظر إلى الأبنية لأنها عنوان رقي الجماعات، الذين يسكنونها، أو إلى المخلفات العلمية والأدبية والفلسفة؛ لأنها مجلى حقيقة ما كانوا عليه من المدارك، أو الثروة التي كانوا يتنعمون بها، لأنها تدل على اقتدارهم في الصناعة والزراعة والتجارة، وبالأخير إلى شرائعها، لأن الشرائع أعظم دليل على ما كان في تلك الأمة من الأخلاق الراقية وعدمها، ومن المساوات أو التفاوت في المقامات، ومن العدل أو الظلم، ومن الآداب الحسنة أو الأخلاق السيئة، ومن عرف نهضة الإسلام وتعاليم النبي عليه السلام وأمعن النظر في تلك النهضة تحقق أن ليس هناك من أساليب التمدن ما لم يكن الإسلام في وقت ظهوره أصلا له، وينبوعا فمن تأمل ما بثه النبي صلى الله عليه وسلم من التعاليم، وأنواع الإرشاد، وما حوى القرآن من آداب الاجتماع، وسنّ من طرق التعارف والتمازج، وما أودع الله غضون كلماته الجوهرية من أحكام الطبيعة وأسرار الوجود وفرائد الكائنات، وما ضبط من الحقوق وسنّ من أنظمة الحياة وما تلته به السنة النبوية من تهذيب النفوس والأخلاق، والإرشاد للأخذ بالأحسن فالأحسن وأحكمته من سنن الإرتقاء والأخاء البشري والتمتع بضروب الحرية علم أن التمدن الإسلامي في إبان ظهوره قامت معه تلك الأعمال لتأثير تلك التعاليم على قلوب سامعيها في ذلك الحين.

نعم.

لا ننكر أن التمدن الإسلامي جرى مجرى النشوء الطبيعي في كل شيء، وسار سيرا تدريجيا إلى أن وصل إلى أوجه في السمو، فمن لم يتأمل ذلك ولم يحط نظرا في الموضوع بما له وعليه، لا بد أن يغيب عن علمه ما بلغته الإدارات، والعمالات والصناعة والتجارة في تلك العشر سنوات، التي قضاها صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة بعد الهجرة النبوية، وأن الترقي والعمران وصل فيها إلى إحداث ما يعرف من الوظائف اليوم في إدارة الكتابة والحساب والقضاء والحرب والصحة ونحو ذلك خصوصا من غاية علمه عن ذلك الدور أن

طور بواسطة نورين ميديا © 2015