والشجاعة والجبن في الباب السادس، والوفاء والغدر في الباب السابع، وهكذا.
وبسبب المسحة الأخلاقية العامة التي تسيطر على جميع موضوعات هذا الجزء، نجد ان تلك الموضوعات تسمح بإيراد استشهادات شعرية كثيرة تكاد توازي الجانب النثري في الكتاب؛ وهذا ما يميّز هذا الجزء عن سابقه تمييزا بعيدا، لذلك يعدّ هذا الجزء نقلة واضحة من جوّ دينيّ سياسيّ تختلط فيه التوجهات والقيم على نحو قد يتضمن مفارقة حادة بين التوجه للآخرة وسياسة الدنيا، إلى جوّ نابض بحيوية ما اختاره العرب من مثل عليا في جاهليتهم، وحافظوا عليه في الإسلام، فهذه النماذج الكبيرة للجوانب الإيجابية من المروءة:
من جود وصبر وشجاعة وحلم وعلوّ همة ومحافظة على الجوار وتهمّم بما يكفل السؤدد والسيادة تجيء في هذا الجزء منتزعة- في الغالب- من السلوك العملي الدنيوي، دون نظر إلى ثواب أخروي، وتجيء الجوانب السلبية المعاكسة لها نوعا من السخرية بمن يعجز عن بلوغ تلك النماذج العليا؛ وقد حاول المؤلف أن يرسم نوعا من السيادة عن طريق الدين، ولكنه كان يدرك أنه لو أسرف في هذه الناحية لعاد يدرج في الأبواب الجديدة مادة كالتي نثرها في الجزء الأول.
ولعلّ ابن حمدون لم يتعمّد أن يكون أكثر الحكايات عن مكارم الأخلاق من حلم وسؤدد وشجاعة متصلة بالعنصر العربي حتى عصره، ولم يتعمد كذلك أن تكون نسبة كبيرة منها إنما يمثلها رجال عاشوا في العصر الأموي، إذ لعلّ طبيعة الفصول هي المسؤولة عن ذلك، مثلما ان طبيعة المصادر التي يستمد منها مادته تشاركها هذه المسؤولية.
ثم إن تلك الموضوعات نفسها تطلبت من المؤلف أن يرجع إلى مصادر لم يكن لها دور واضح في الجزء السابق، وهنا تبرز أهمية كتاب الأغاني والكامل للمبرد وحماسة أبي تمام وحماسة البحتري والوزراء والكتّاب للجهشياري والفرج بعد الشدة للتنوخي والبخلاء للجاحظ ودواوين الشعراء: كديوان المتنبّي والرضي وابن هاني الأندلسي والببغا والسريّ الرفاء. وهذا لم يقطع الصلة بالمؤلفات المشهورة في الأدب: فظل دور البيان والتبيين وعيون الأخبار والعقد