أنشده إياه. قال: لتفعلنّ، فلم يزل حتى أنشده قول طرفة. قال الملك: فقد بلغ أمره إلى هذا؟ ووقعت في نفسه واختبأها عليه، فكره أن يريه أنه غضب عليه فتدركه الرّحم فينذر طرفة فيهرب، فقال: كذبت أنت متّهم عليه. وسأل عمرو عما قال فوجده والمتلمّس قد قالا فيه قولا سيّئا، فسكت عنهما أياما ثم قال لهما: ما أظنكما إلا قد سرّكما إتيان أهليكما وغرضتما بمكانكما؟ قالا:
أجل. قال: فإني كاتب لكما بها بحباء وكرامة إلى عامل هجر. فكتب لهما أن يقتلا، وجهّزهما بشيء إلى عامله على البحرين، وعامله معضد بن عمرو بن عبد القيس، ثم من الجواثر، وبنو تغلب تقول: كتب له إلى عبد هند بن حر بن حري بن حرورة بن حمير التغلبيّ، وكان عامله على البحرين. فخرجا فمرّا بنهر الحيرة، فإذا هما بغلمان يلعبون في المآء، فرأى المتلمّس في ثياب بعضهم أثر الأنقاس، فقال: يا غلام هل تكتب؟ قال: نعم. فقال لطرفة: تعلم أنّ ارتياح الملك لي ولك من بين شعراء بكر بن وائل لأمر مريب، وقد رأيت من نظر الملك إلينا أشياء ارتبت بها، فهل لك أن تنظر في كتابينا، فإن كان ما نحبّ فختمناهما ورجعنا، وإن كان ما نكره رجعنا إلى مأمننا، فقال طرفة: ما أخاف، ما كان ليكتب إلا بما قال، ولو أراد غير ذلك لكان قادرا عليه، وما كان ليجترىء عليّ وعلى قومي. فدفع المتلمّس كتابه إلى الغلام العبادي، فلما فضّ ختامه ونظر فيه جعل يقرأ ويقول: ثكلت المتلمّس أمّه، فقال: ويلك وما في الكتاب؟ قال: فيه يقتل المتلمّس. فقال لطرفة: في كتابك والله مثل ما في كتابي، فألق صحيفتك.
فأبى، وألقى المتلمّس صحيفته في الماء، وقال: [من الطويل]
وألقيتها بالثني من شطّ كافر ... كذلك أقنو كلّ قطّ مدلّل
الثني من أثناء الوادي والنهر، وكافر نهر الحيرة، كفر: غطّى ووارى فهو كافر، وأقنو أجزي، والقط: الصحيفة والصك، ومنه قوله عزّ وجلّ: عَجِّلْ لَنا قِطَّنا
(ص: 16) .