ذلك، للزمنا أمور ممنوعة، وهو القضاء بكون العلم لا يتصور أن يعلم، وذلك محال، فإنا نعلم علم غيرنا وعلمنا. ويلزمنا أيضا أن يكون الواحد منا عالما بالعلوم الكثيرة، وهو لا يعلم ذلك من نفسه، وذلك معلوم بطلانه ضرورة. أو يقال: يعلم العلم بعلم آخر، وذلك باطل، لإفضائه إلى التسلسل، إذ لا ينتهي إلى حد يوقف عنده، فلم يبق إلا أن العلم يتعلق بالمعلوم ويتعلق بنفسه. وإذا كان كذلك، وجب أن يكون العالم عالما بحقيقة العلم، فكيف يتصور أن يطلب العاقل أن يكشف له حقيقة العلم؟
وظني بالأئمة - رضي الله عنهم - أنهم ما سلكوا في التحديد التعرض لتبديل الألفاظ، إلا لما قررته من كون الحقيقة مكشوفة. وإنما التبس على السامع نسبة اللفظ إلى المعنى، فأوضحوا له بلفظ أوضح دلالة ونسبة من الأول.
فإن قيل: فإذا كان من ضرورة العالم أن يحيط بحقيقة العلم، فكيف يتصور التباس العلم بالاعتقاد، حتى قلتم: إن ذلك من أغمض الأمور؟ فيقال: إنما جاء ذلك من خفاء الاعتقاد وشدة التباسه، إذ ضرورة المعتقد أن يعتقد كونه عالما، فلما كان ذلك من ضرورته، التبس أمره، فذكرنا تلك الطرق، ليتبين بها الاعتقاد، لا أن العلم مفتقر إلى البيان، إذ ليس بعد العلم كشف على حال.
وهذا الذي ذكرته في هذا المكان من جواهر الكلام. ولم أر أحدا من الأصوليين والمتكلمين ذكر ذلك، ولكنه شيء من الله سبحانه، فله الحمد وله المنة.