إِطْلَاقِ هَذَيْنِ
اللَّفْظَيْنِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الْكِنَائِيِّ الَّذِي شَاعَ حَتَّى سَاوَى الصَّرِيحَ، وَأَصْلُهُ جَاءَ مِنَ الزَّجْرِ وَالْعِيَافَةِ إِذْ كَانُوا يَتَوَقَّعُونَ حُصُولَ خَيْرٍ مِنْ أَغْرَاضِهِمْ مِنْ مُرُورِ الطَّيْرِ أَوِ الْوَحْشِ مِنْ يَمِينِ الزَّاجِرِ إِلَى يَسَارِهِ وَيَتَوَقَّعُونَ الشَّرَّ مِنْ مُرُورِهِ بِعَكْسِ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [28] ، وَتَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [131] ، وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ فِي سُورَةِ يس [18] .
وَلِذَلِكَ اسْتُغْنِيَ هُنَا عَنِ الْإِخْبَارِ عَنْ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ بِخَبَرٍ فِيهِ وَصْفُ بَعْضِ حَالَيْهِمَا بِذِكْرِ مَا هُوَ إِجْمَالٌ لِحَالَيْهِمَا مِمَّا يَشْعُرُ بِهِ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ مِنْ لَفْظَيِ الْمَيْمَنَةِ وَالْمَشْأَمَةِ بِطَرِيقَةِ الْاِسْتِفْهَامِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي التَّعَجِيبِ مِنْ حَالِ الْفَرِيقَيْنِ فِي السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، وَهُوَ تَعْجِيبٌ تُرِكَ عَلَى إِبْهَامِهِ هُنَا لِتَذْهَبَ نَفْسُ السَّامِعِ كُلُّ مَذْهَبٍ مُمْكِنٍ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَ (مَا) فِي الْمَوْضِعَيْنِ اسْمُ اسْتِفْهَامٍ.
وَ (أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَاب الْمَشْأَمَةِ) خَبَرَانِ عَنْ (مَا) فِي الْمَوْضِعَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ [الْحَاقَّةُ: 1، 2] وَقَوْلِهِ: الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ [الْقَارِعَةُ: 1، 2] .
وَإِظْهَارُ لَفْظَيْ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ بَعْدَ الْاِسْتِفْهَامَيْنِ دُونَ الْإِتْيَانِ بِضَمِيرَيْهِمَا. لِأَن مقَام التعجيب وَالتَّشْهِيرِ يَقْتَضِي الْإِظْهَار بِخِلَاف مقَام قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَما أَدْراكَ مَا هِيَهْ [القارعة: 10] .
وَقَوْلُهُ: وَالسَّابِقُونَ هَذَا الصِّنْفُ الثَّالِثُ فِي الْعَدِّ وَهُمُ الصِّنْفُ الْأَفْضَلُ مِنَ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ، وَوَصْفُهُمْ بِالسَّبْقِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ سَابِقُونَ أَمْثَالُهُمْ مِنَ الْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ عَبَّرَ عَنْهُمْ بِأَصْحَابِ الْمَيْمَنَةِ فَهُمْ سَابِقُونَ إِلَى الْخَيْرِ، فَالنَّاسُ لَا يَتَسَابَقُونَ إِلَّا لِنَوَالِ نَفِيسٍ مَرْغُوبٍ لِكُلِّ النَّاسِ، وَأَمَّا الشَّرُّ والضرّ فهم يتكعكون عَنْهُ.
وَحَقِيقَةُ السَّبْقِ: وُصُولُ أَحَدٍ مَكَانًا قَبْلَ وُصُولِ أَحَدٍ آخَرَ. وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ عَلَى سَبِيلِ الْاِسْتِعَارَةِ، وَقَدْ جَمَعَ الْمَعْنَيَيْنِ قَوْلُ النَّابِغَةِ:
سَبَقْتَ الرِّجَالَ الْبَاهِشِينَ إِلَى الْعُلَا ... كَسَبْقِ الْجَوَادِ اصْطَادَ قَبْلَ الظَّوَارِدِ
فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السَّابِقُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي الْمُبَادَرَةِ وَالْإِسْرَاعِ إِلَى الْخَيْرِ فِي