وَأَخَّرَ الْكَلَامَ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ لِمَا عُرِضَ مِنْ تَجَاذُبِ الْمُنَاسَبَاتِ فِيمَا أُورِدَ مِنْ آيَاتِ الْعَذَابِ لِلْأُمَمِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا بِمَا عَلِمْتَهُ سَابِقًا. وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ: مِنْ قَبْلُ تَنْبِيهًا عَلَى وَجْهِ مُخَالَفَةِ عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَرْتِيبِ حِكَايَةِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ عَلَى حَسَبِ تَرْتِيبِهِمْ فِي الْوُجُودِ.
وَقَدْ أَوْمَأَ قَوْلُهُ: مِنْ قَبْلُ إِلَى هَذَا وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولى وَثَمُودَ فَما أَبْقى وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى [النَّجْم: 50- 52] .
[47]
وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)
لَمَّا كَانَتْ شُبْهَةُ نُفَاةِ الْبَعْثِ قَائِمَةً عَلَى تَوَهُّمِ اسْتِحَالَةِ إِعَادَةِ الْأَجْسَامِ بعد فنائها أعقب تَهْدِيدَهُمْ بِمَا يُقَوِّضُ تَوَهُّمَهُمْ فَوُجِّهَ إِلَيْهِ الْخِطَابُ يُذَكِّرُهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ أَعْظَمَ الْمَخْلُوقَاتِ
وَلَمْ تَكُنْ شَيْئًا فَلَا تُعَدُّ إِعَادَةُ الْأَشْيَاءِ الْفَانِيَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا إِلَّا شَيْئًا يَسِيرًا كَمَا قَالَ تَعَالَى:
لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [غَافِر: 57] .
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ وَالْجُمَلُ الْمَعْطُوفَةُ عَلَيْهَا إِلَى قَوْلِهِ: إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:
51] مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ [الذاريات: 46] إِلَخْ وَجُمْلَةِ كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ [الذاريات: 52] الْآيَةَ.
وَابْتُدِئَ بِخَلْقِ السَّمَاءِ لِأَنَّ السَّمَاءَ أَعْظَمُ مَخْلُوقٍ يُشَاهِدُهُ النَّاسُ، وَعُطِفَ عَلَيْهِ خَلْقُ الْأَرْضِ عَطْفَ الشَّيْءِ عَلَى مُخَالِفِهِ لِاقْتِرَانِ الْمُتَخَالِفِينَ فِي الْجَامِعِ الْخَيَالِيِّ. وَعُطِفَ عَلَيْهَا خَلْقُ أَجْنَاسِ الْحَيَوَانِ لِأَنَّهَا قَرِيبَةٌ لِلْأَنْظَارِ لَا يُكَلِّفُ النَّظَرُ فِيهَا وَالتَّدَبُّرُ فِي أَحْوَالِهَا مَا يُرْهِقُ الْأَذْهَانَ.
وَاسْتُعِيرَ لِخَلْقِ السَّمَاءِ فعل الْبناء لِأَنَّهُ مَنْظَرَ السَّمَاءِ فِيمَا يَبْدُو لِلْأَنْظَارِ شَبِيهٌ بِالْقُبَّةِ وَنَصْبُ الْقُبَّةِ يُدْعَى بِنَاءً.
وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِأَثَرِ الْخَلْقِ الَّذِي عَايَنُوا أَثَرَهُ وَلَمْ يَشْهَدُوا كَيْفِيَّتَهُ، لِأَن أَثَره ينبىء عَنْ عَظِيمِ كَيْفِيَّتِهِ، وَأَنَّهَا أَعْظَمُ مِمَّا يُتَصَوَّرُ فِي كَيْفِيَّةِ إِعَادَةِ الْأَجْسَامِ الْبَالِيَةِ.