لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19)
عَوْدٌ إِلَى تَفْصِيلِ مَا جَازَى اللَّهُ بِهِ أَصْحَابَ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ الْمُتَقَدِّمِ إِجْمَالُهُ فِي قَوْلِهِ:
إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الْفَتْح: 10] ، فَإِنَّ كَوْنَ بيعتهم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُعْتَبَرُ بَيْعَةً لِلَّهِ تَعَالَى أَوْمَأَ إِلَى أَنَّ لَهُمْ بِتِلْكَ الْمُبَايَعَةِ مَكَانَةً رَفِيعَةً مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَلَمَّا قُطِعَ الِاسْتِرْسَالُ فِي ذَلِكَ بِمَا كَانَ تَحْذِيرًا مِنَ النَّكْثِ وَتَرْغِيبًا فِي الْوَفَاءِ، بِمُنَاسَبَةِ التَّضَادِّ وَذِكْرِ مَا هُوَ وَسَطٌ بَيْنَ الْحَالَيْنِ وَهُوَ حَالُ الْمُخَلَّفِينَ، وَإِبْطَالُ اعْتِذَارِهِمْ وَكَشْفُ طَوِيَّتِهِمْ، وَإِقْصَائِهِمْ عَنِ الْخَيْرِ الَّذِي أَعَدَّهُ اللَّهُ لِلْمُبَايِعِينَ وَإِرْجَائِهِمْ إِلَى خَيْرٍ يَسْنَحُ مِنْ بَعْدِ إِنْ هُمْ صَدَقُوا التَّوْبَةَ وَأَخْلَصُوا النِّيَّةَ.
فَقَدْ أَنَالَ اللَّهُ الْمُبَايِعِينَ رِضْوَانَهُ وَهُوَ أَعْظَمُ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قَالَ تَعَالَى:
وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التَّوْبَة: 72] وَالشَّهَادَةَ لَهُمْ بِإِخْلَاصِ النِّيَّةِ، وَإِنْزَالَهُ السَّكِينَةَ قُلُوبَهُمْ وَوَعْدَهُمْ بِثَوَابِ فَتْحٍ قَرِيبٍ وَمَغَانِمَ كَثِيرَةٍ.
وَفِي قَوْلِهِ: عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ إِيذَانٌ بِأَنَّ مَنْ لَمْ يُبَايِعْ مِمَّنْ خَرَجَ مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ حِينَئِذٍ بِمُؤْمِنٍ وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ إِذْ كَانَ يَوْمَئِذٍ مُنَافِقًا ثُمَّ حَسُنَ إِسْلَامُهُ.
وَقَدْ دُعِيَتْ هَذِهِ الْبَيْعَةُ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ. وإِذْ يُبايِعُونَكَ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ رَضِيَ، وَفِي تَعْلِيقِ هَذَا الظّرْف بِفعل الرضى مَا يفهم أَن الرضى مُسَبَّبٌ عَنْ مَفَادِ ذَلِكَ الظَّرْفِ الْخَاصِّ بِمَا أُضِيفَ هُوَ إِلَيْهِ، مَعَ مَا يُعْطِيهِ تَوْقِيت الرضى بِالظَّرْفِ الْمَذْكُورِ مِنْ تَعْجِيل حُصُول الرضى بِحِدْثَانِ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَمَعَ مَا فِي جَعْلِ الْجُمْلَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهَا الظَّرْفُ فِعْلِيَّةً مُضَارِعِيَّةً من حُصُول الرضى قَبْلَ انْقِضَاءِ الْفِعْلِ بَلْ فِي حَالِ تَجَدُّدِهِ. فَالْمُضَارِعُ فِي قَوْلِهِ يُبايِعُونَكَ مُسْتَعْمِلٌ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي لِاسْتِحْضَارِ حَالَةِ