أَيْ أَنَّ لَنَا فِي الدُّنْيَا حُلُولًا وَلَنَا عَنْهَا مُرْتَحَلًا، إِذْ لَيْسَ بَقِيَّةُ الْبَيْتِ وَهُوَ قَوْلُهُ:
وَإِنَّ فِي السَّفَرِ إِذْ مَضَوْا مَهَلَا مَا يَصِحُّ وُقُوعُهُ خَبَرًا عَنْ (إِنَّ) الْأُولَى. وَقَالَ جَمِيلٌ:
وَقَالُوا نَرَاهَا يَا جَمِيلُ تَنَكَّرَتْ ... وَغَيَّرَهَا الْوَاشِي فَقُلْتُ لَعَلَّهَا
وَقَالَ الْجَاحِظُ فِي «الْبَيَانِ» فِي بَابِ مِنَ الْكَلَامِ الْمَحْذُوفِ عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّ الْمُهَاجِرِينَ قَالُوا: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْأَنْصَارَ آوَوْنَا وَنَصَرُونَا، قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَعْرِفُونَ ذَلِكَ لَهُمْ،
قَالُوا: نَعَمْ
، قَالَ: «فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ غَيْرُ هَذَا» يُرِيدُ فَإِنَّ ذَلِكَ شُكْرٌ وَمُكَافَأَةٌ اهـ. وَفِي الْمَقَامَةِ الثَّالِثَةِ وَالْأَرْبَعِينَ «حَسْبُكَ يَا شَيْخُ فَقَدْ عَرَفْتُ فَنَّكَ، وَاسْتَبَنْتُ أَنَّكَ» أَيْ أَنَّكَ أَبُو زَيْدٍ. وَقَدْ مَثَّلَ فِي «شَرْحِ التَّسْهِيلِ» لِحَذْفِ خَبَرِ (إِنَّ) بِهَذِهِ الْآيَةِ.
وَجُمْلَةُ: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ إِلَخْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الذِّكْرِ، أَيْ كَفَرُوا بِهِ فِي حَالِهِ هَذَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ عَلَى تَقْدِيرِ خَبَرِ إِنَّ الْمَحْذُوفِ. وَقَدْ أُجْرِيَ عَلَى الْقُرْآنِ سِتَّةُ أَوْصَافٍ مَا مِنْهَا وَاحِدٌ إِلَّا وَهُوَ كَمَالٌ عَظِيمٌ:
الْوَصْفُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ ذِكْرٌ، أَيْ يُذَكِّرُ النَّاسَ كُلَّهُمْ بِمَا يَغْفُلُونَ عَنْهُ مِمَّا فِي الْغَفْلَةِ عَنْهُ فَوَاتُ فَوْزِهِمْ.
الْوَصْفُ الثَّانِي مِنْ مَعْنَى الذِّكْرِ: أَنَّهُ ذِكْرٌ لِلْعَرَبِ وَسُمْعَةٌ حَسَنَةٌ لَهُمْ بَيْنَ الْأُمَمِ يُخَلِّدُ لَهُمْ مَفْخَرَةً عَظِيمَةً وَهُوَ كَوْنُهُ بِلُغَتِهِمْ وَنَزَلَ بَيْنَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: 44] وَفِي قَوْلِهِ: لَمَّا جاءَهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى الثَّانِي.
الْوَصْفُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ كِتَابٌ عَزِيزٌ، وَالْعَزِيزُ النَّفِيسُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْعِزَّةِ وَهِيَ الْمَنَعَةُ لِأَن الشَّيْء النَّفْسِيّ يُدَافَعُ عَنْهُ وَيُحْمَى عَنِ النَّبْذِ فَإِنَّهُ بَيْنَ الْإِتْقَانِ وَعُلُوِّ الْمَعَانِي وَوُضُوحِ الْحُجَّةِ وَمِثْلُ ذَلِكَ يَكُونُ عَزِيزًا، وَالْعَزِيزُ أَيْضًا: الَّذِي يَغْلِبُ وَلَا يُغْلَبُ، وَكَذَلِكَ حُجَجُ الْقُرْآنِ.