إِلَى قَوْلِهِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [الْأَحْزَاب: 73] فَقَدْ جَاءَ تَفْصِيلُهُ بِذِكْرِ فَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مضيع للأمانة وَالْآخر مُرَاعٍ لَهَا.
وَلِذَلِكَ أَثْنَى اللَّهُ عَلَى الَّذِينَ وَفَّوْا بِالْعُهُودِ وَالْأَمَانَاتِ فَقَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا [الْأَحْزَاب: 15] وَقَالَ فِيهَا: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الْأَحْزَاب: 23] وَقَالَ: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ [مَرْيَم: 54] وَقَالَ فِي ضِدِّ ذَلِكَ: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ إِلَى قَوْلِهِ: أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ [الْبَقَرَة: 26، 27] .
[73]
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73)
مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ [الْأَحْزَاب: 72] لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَصْنَافِ الْإِنْسَانِ. وَهَذِهِ اللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ الْمَجَازِيِّ الْمُسَمَّاةُ لَامُ الْعَاقِبَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا غَيْرَ مَرَّةٍ إِحْدَاهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً فِي آلِ عِمْرَانَ [178] .
وَالشَّاهِدُ الشَّائِعُ فِيهَا هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَص: 8] وَعَادَةُ النُّحَاةِ وَعُلَمَاءِ الْبَيَانِ يَقُولُونَ: إِنَّهَا فِي مَعْنَى فَاءِ التَّفْرِيعِ: وَإِذْ قَدْ كَانَ هَذَا عَاقِبَةً لِحَمْلِ الْإِنْسَانِ الْأَمَانَةَ وَكَانَ فِيمَا تَعَلَّقَ بِهِ لَامُ التَّعْلِيلِ إِجْمَالٌ تَعَيَّنَ أَنَّ هَذَا يُفِيدُ بَيَانًا لِمَا أُجْمِلَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا [الْأَحْزَاب: 72] كَمَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا، أَيْ فَكَانَ الْإِنْسَانُ فَرِيقَيْنِ: فَرِيقًا ظَالِمًا جَاهِلًا، وَفَرِيقًا رَاشِدًا عَالِمًا.
وَالْمَعْنَى: فَعَذَّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَلَى عَدَمِ الْوَفَاءِ بِالْأَمَانَةِ الَّتِي تَحَمَّلُوهَا فِي أَصْلِ الْفِطْرَةِ وَبِحَسَبِ الشَّرِيعَةِ، وَتَابَ عَلَى الْمُؤمنِينَ فغفر لَهُم مِنْ ذُنُوبِهِمْ لِأَنَّهُمْ وَفَّوْا بِالْأَمَانَةِ الَّتِي تَحَمَّلُوهَا. وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ فِيمَا مَرَّ: لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [الْأَحْزَاب: 24] أَيْ كَمَا تَابَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَنْدَمُوا عَلَى مَا فَرَطَ مِنْ نِفَاقِهِمْ فَيُخْلِصُوا الْإِيمَانَ فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ.
وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: وَيَتُوبَ اللَّهُ وَكَانَ الظَّاهِرُ إِضْمَارَهُ لِزِيَادَةِ الْعِنَايَةِ