وَمعنى عرض هَذِه الْأَمَانَةِ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ يَنْدَرِجُ فِي مَعْنَى تَفْسِيرِ الْأَمَانَةِ بِالْعَقْلِ، لِأَنَّ الْأَمَانَةَ بِهَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْأَخْلَاقِ الَّتِي يَجْمَعُهَا الْعَقْلُ وَيُصَرِّفُهَا، وَحِينَئِذٍ فَتَخْصِيصُهَا بِالذِّكْرِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَهَمِّيَّتِهَا فِي أَخْلَاقِ الْعَقْلِ.
وَالْقَوْلُ فِي حَمْلِ مَعْنَى الْأَمَانَةِ عَلَى خِلَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ مِثْلُ الْقَوْلِ فِي الْعَقْلِ لِأَنَّ تِلْكَ الْخِلَافَةَ مَا هَيَّأَ الْإِنْسَانَ لَهَا إِلَّا الْعَقْلُ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَة: 30] ثُمَّ قَوْلُهُ: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [الْبَقَرَة: 31] فَالْخِلَافَةُ فِي الْأَرْضِ هِيَ الْقِيَامُ بِحِفْظِ عُمْرَانِهَا وَوَضْعِ الْمَوْجُودَاتِ فِيهَا فِي مَوَاضِعِهَا، وَاسْتِعْمَالِهَا فِيمَا اسْتَعَدَّتْ إِلَيْهِ غَرَائِزُهَا.
وَبَقِيَّةُ الْأُمُورِ الَّتِي فَسَّرَ بِهَا بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْأَمَانَةَ يُعْتَبَرُ تَفْسِيرُهَا مِنْ قَبِيلِ ذِكْرِ الْأَمْثِلَةِ الْجُزْئِيَّةِ لِلْمَعَانِي الْكُلِّيَّةِ.
وَالْمُتَبَادِرُ مِنْ هَذِهِ الْمَحَامِلِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَمَانَةِ حَقِيقَتَهَا الْمَعْلُومَةَ وَهِيَ الْحِفَاظُ عَلَى مَا عُهِدَ بِهِ وَرَعْيُهُ وَالْحِذَارُ مِنَ الْإِخْلَالِ بِهِ سَهْوًا أَوْ تَقْصِيرًا فَيُسَمَّى تَفْرِيطًا وَإِضَاعَةً، أَوْ عَمْدًا فَيُسَمَّى خِيَانَةً وَخَيْسًا لِأَنَّ هَذَا الْمَحْمَلَ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِوُرُودِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي خِتَامِ السُّورَةِ الَّتِي ابْتُدِئَتْ بِوَصْفِ خِيَانَةِ الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ وَإِخْلَالِهِمْ بِالْعُهُودِ وَتَلَوُّنِهِمْ مَعَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
تَعَالَى: وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ [الْأَحْزَاب: 15] وَقَالَ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الْأَحْزَاب: 23] . وَهَذَا الْمَحْمَلُ يَتَضَمَّنُ أَيْضًا أَقْرَبَ الْمَحَامِلِ بَعْدَهُ وَهُوَ أَن يكون هُوَ الْعَقْلَ لِأَنَّ قَبُولَ الْأَخْلَاق فرع عَنهُ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا مَحَلُّهَا اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ وَالْمُتَعَلِّقِ بِفِعْلِهَا وَهُوَ لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ [الْأَحْزَاب: 73] الْخَ. وَمَعْنَاهَا اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ السَّامِعَ خَبَرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ تحمل الْأَمَانَة يترقب مَعْرِفَةَ مَا كَانَ مِنْ حُسْنِ قِيَامِ الْإِنْسَانِ بِمَا حُمِّلَهُ وَتَحَمَّلَهُ وَلَيْسَتِ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلِيَّةً لِأَنَّ تَحَمُّلَ الْأَمَانَةِ لَمْ يَكُنْ بِاخْتِيَارِ الْإِنْسَانِ فَكَيْفَ يُعَلَّلُ بِأَنَّ حَمْلَهُ الْأَمَانَةَ مِنْ أَجْلِ ظُلْمِهِ وَجَهْلِهِ.
فَمَعْنَى كانَ ظَلُوماً جَهُولًا أَنَّهُ قَصَّرَ فِي الْوَفَاءِ بِحَقِّ مَا تَحَمَّلَهُ تقصيرا: بعضه عَن عَمْدٍ وَهُوَ الْمعبر عَنهُ بِوَصْفِ ظَلُومٍ، وَبَعْضُهُ عَنْ تَفْرِيطٍ فِي الْأَخْذِ