فَتَسْمِيَةُ الْقُرْآنِ ذِكْرًا تَسْمِيَةٌ جَامِعَةٌ عَجِيبَةٌ لَمْ يَكُنْ لِلْعَرَبِ عِلْمٌ بِهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَرِدَ فِي الْقُرْآنِ.
وَكَذَلِكَ تَسْمِيَتُهُ قُرْآنًا لِأَنَّهُ قَصَدَ مِنْ إِنْزَالِهِ أَنْ يُقْرَأَ، فَصَارَ الذِّكْرُ وَالْقُرْآنُ صِنْفَيْنِ مِنْ أَصْنَافِ الْكَلَامِ الَّذِي يُلْقَى لِلنَّاسِ لِقَصْدِ وَعْيِهِ وَتِلَاوَتِهِ، كَمَا كَانَ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ الشِّعْرُ وَالْخُطْبَةُ وَالْقِصَّةُ وَالْأُسْطُورَةُ.
وَيَدُلُّكَ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ [سُورَة يس: 69] ، فَنَفَى أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِعْرًا، وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ وَصْفَهُ بِذَلِكَ يَقْتَضِي مُغَايَرَةً بَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَالصِّفَةِ، وَهِيَ مُغَايِرَةٌ بِاعْتِبَارِ مَا فِي الصِّفَتَيْنِ مِنَ الْمَعْنَى الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ. فَالْمُرَادُ: أَنَّهُ مِنْ صِنْفِ الذِّكْرِ وَمِنْ صِنْفِ الْقُرْآنِ، لَا مِنْ صِنْفِ الشِّعْرِ وَلَا مِنْ صِنْفِ الْأَسَاطِيرِ.
ثُمَّ صَارَ «الْقُرْآنُ» بِالتَّعْرِيفِ بِاللَّامِ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ عَلَى مُحَمَّدٍ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا.
وَإِنَّمَا وَصَفُوهُ بِالْجُنُونِ لِتَوَهُّمِهِمْ أَنَّ ادِّعَاءَ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ لَا يَصْدُرُ مِنْ عَاقِلٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مُخَالِفٌ لِلْوَاقِعِ تَوَهُّمًا مِنْهُمْ بِأَنَّ مَا لَا تَقْبَلُهُ عُقُولُهُمُ الَّتِي عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقْبَلَهُ الْعُقَلَاءُ، فَالدَّاعِي بِهِ غَيْرُ عَاقِلٍ.
وَالْمَجْنُونُ: الَّذِي جُنَّ، أَيْ أَصَابَهُ فَسَادٌ فِي الْعَقْلِ مِنْ أَثَرِ مَسِّ الْجِنِّ إِيَّاهُ فِي
اعْتِقَادِهِمْ، فَالْمَجْنُونُ اسْمُ مَفْعُولٍ مُشْتَقٌّ مِنَ الْفِعْلِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَجْهُولِ وَهُوَ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي لَمْ تَرِدْ إِلَّا مُسْنَدَةً لِلْمَجْهُولِ.
وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِ (إِنَّ) وَاللَّامِ لِقَصْدِهِمْ تَحْقِيقَ ذَلِكَ لَهُ لَعَلَّهُ يَرْتَدِعُ عَنِ الِاسْتِمْرَارِ فِيهِ أَوْ لِقَصْدِهِمْ تَحْقِيقَهُ لِلسَّامِعِينَ حَاضِرِي مَجَالِسِهِمْ.