النُّطْقِ وَالْبَيَانِ لِلتَّعْلِيمِ، وَالثَّالِثُ إِلَى الشَّرَائِعِ.
وَالْحَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ التَّقْدِيمِ فِي قَوْلِهِ: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ حَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِلْمُبَالَغَةِ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِالِاسْتِعَانَاتِ الْمُتَعَارَفَةِ بَيْنَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْض فِي شؤونهم، وَمَعْنَى الْحَصْرِ هُنَا لَا نَسْتَعِينُ عَلَى عَظَائِمِ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يُسْتَعَانُ فِيهَا بِالنَّاسِ إِلَّا بِاللَّهِ تَعَالَى. وَيُفِيدُ هَذَا الْقَصْرُ فِيهِمَا التَّعْرِيضَ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ وَيَسْتَعِينُونَ بِغَيْرِهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فَرِيقَيْنِ مِنْهُمْ مَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ عَلَى قَصْدِ التَّشْرِيكِ إِلَّا أَنَّ وَلَعَهُ وَاسْتِهْتَارَهُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْسَاهُ عِبَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا عَبَدَتْ سَبَأُ الشَّمْسَ وَعَبَدَ الْفُرْسُ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ، وَعَبَدَ الْقِبْطُ الْعِجْلَ وَأَلَّهُوا الْفَرَاعِنَةَ، وَعَبَدَتْ أُمَمُ السُّودَانِ الْحَيَوَانَاتِ كَالثَّعَابِينِ. وَمِنَ الْمُشْرِكِينَ مَنْ أَشْرَكَ مَعَ عِبَادَةِ اللَّهِ عِبَادَةَ غَيْرِهِ وَهَذَا حَالُ مُعْظَمِ الْعَرَبِ مِمَّنْ عَبَدَ الْأَصْنَامَ أَوْ عَبَدَ الْكَوَاكِبَ، فَقَدْ عَبَدَتْ ضَبَّةُ وَتَيْمٌ وَعُكْلُ الشَّمْسَ، وَعَبَدَتْ كِنَانَةُ الْقَمَرَ، وَعَبَدَتْ لَخْمٌ وَخُزَاعَةُ وَبَعْضُ قُرَيْشٍ الشِّعْرَى، وَعَبَدَتْ تَمِيمٌ الدبران، وعبدت طيىء الثُّرَيَّا، وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ جَعَلُوا الْآلِهَةَ بِزَعْمِهِمْ وَسِيلَةً يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَهَؤُلَاءِ جَمَعُوا الْعِبَادَةَ وَالِاسْتِعَانَةَ بِهِمْ لِأَنَّ جَعْلَهُمْ وَسِيلَةً إِلَى اللَّهِ ضَرْبٌ مِنَ الِاسْتِعَانَةِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ اسْتِفَادَةَ الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَنَحْوِهِمْ بِطَرِيقِ التَّعْرِيضِ أَيْ بِطَرِيقِ عَرْضِ الْكَلَامِ لِأَنَّ الْقَصْرَ الْحَقِيقِيَّ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ لِرَدِّ الِاعْتِقَادِ إِلَّا
تَعْرِيضًا لِأَنَّ مَعْنَاهُ حَاصِلٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ السَّلْكُوتِيُّ فِي «حَاشِيَةِ التَّفْسِيرِ» .
فَإِنْ قُلْتَ كَيْفَ أُمِرْنَا بِأَنْ لَا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نَسْتَعِينَ إِلَّا بِهِ حَسْبَمَا تُشِيرُ إِلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ، وَقَدْ
وَرَدَ فِي الصَّحِيح أَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا عَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لَهُ «إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ»
فَلَمْ يَأْتِ بِصِيغَةِ قَصْرٍ. قُلْتُ قَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ الْجَدُّ قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ تَرْكَ طَرِيقَةِ الْقَصْرِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْمَقَامَ لَا يَقْبَلُ الشَّرِكَةَ وَأَنَّ مِنْ حَقِّ السُّؤَالِ أَنْ لَا يَكُونَ إِلَّا لِلَّهِ الْقَادِرِ الْعَلِيمِ، وَقَدْ قَالَ عُلَمَاءُ الْبَلَاغَةِ إِذَا كَانَ الْفِعْلُ مَقْصُورًا فِي نَفْسِهِ فَارْتِكَابُ طَرِيقِ الْقَصْرِ لَغْوٌ مِنَ الْكَلَامِ اهـ.
وَأَقُولُ تَقْفِيَةً عَلَى أَثَرِهِ إِنَّ مَقَامَ الْحَدِيثِ غَيْرُ مَقَامِ الْآيَةِ فَمَقَامُ الْحَدِيثِ مَقَامُ تَعْلِيمٍ خَاصٍّ لِمَنْ نَشَأَ وَشَبَّ وَتَرَجَّلَ فِي الْإِسْلَامِ فَتَقَرُّرُ قَصْرِ الْحُكْمِ لَدَيْهِ عَلَى طَرَفِ الثُّمَامِ وَلِذَلِكَ اسْتَغْنَى عَنْهُ وَأَمَّا مَقَامُ هَذِهِ الْآيَةِ فَمَقَامُ مُفْتَتَحِ الْوَحْيِ وَالتَّشْرِيعِ وَاسْتِهْلَالِ الْوَعْظِ وَالتَّقْرِيعِ، فَنَاسَبَ تَأْكِيدَ الْحُكْمِ بِالْقَصْرِ مَعَ التَّعْرِيضِ بِحَالِ الشِّرْكِ الشَّنِيعِ عَلَى أَنَّ تَعْلِيقَ الْأَمْرِ بِهِمَا فِي جَوَابِ الشَّرْطِ عَلَى حُصُولِ أَيِّ سُؤَالٍ وَأَيَّةِ اسْتِعَانَةٍ يُفِيدُ مَفَادَ الْقَصْرِ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ