فِي مَعْنَيَيْهِ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَالْآيَةُ ابْتِدَاءُ تَشْرِيعٍ وَهُوَ مِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَعَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ يَكُونُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِ الْأَرْحَامِ أَيِ الَّتِي يَسْأَلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِهَا، وَذَلِكَ قَوْلُ الْعَرَبِ: «نَاشَدْتُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ» كَمَا رُوِيَ فِي «الصَّحِيحِ» :
أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَرَأَ عَلَى عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ سُورَةَ فُصِّلَتْ حَتَّى بَلَغَ: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [فصلت: 13] فَأَخَذَتْ عُتْبَةَ رَهْبَةٌ وَقَالَ: نَاشَدْتُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ. وَهُوَ ظَاهِرُ مَحْمَلِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَإِنْ أَبَاهُ جُمْهُورُ النُّحَاةِ اسْتِعْظَامًا لِعَطْفِ الِاسْمِ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ بِدُونِ إِعَادَةِ الْجَارِّ، حَتَّى قَالَ الْمُبَرِّدُ: «لَوْ قَرَأَ الْإِمَامُ بِهَاتِهِ الْقِرَاءَةِ لَأَخَذْتُ نَعْلِي وَخَرَجْتُ مِنَ الصَّلَاةِ» وَهَذَا مِنْ ضِيقِ الْعَطَنِ وَغُرُورٍ بِأَنَّ الْعَرَبِيَّةَ مُنْحَصِرَةٌ فِيمَا يَعْلَمُهُ، وَلَقَدْ أَصَابَ ابْنُ مَالِكٌ فِي تَجْوِيزِهِ الْعَطْفَ عَلَى الْمَجْرُورِ بِدُونِ إِعَادَةِ الْجَارِّ، فَتَكُونُ تَعْرِيضًا بِعَوَائِدِ الْجَاهِلِيَّةِ، إِذْ يَتَسَاءَلُونَ بَيْنَهُمْ بِالرَّحِمِ وَأَوَاصِرِ الْقَرَابَةِ ثُمَّ يُهْمِلُونَ حُقُوقَهَا وَلَا يَصِلُونَهَا، وَيَعْتَدُونَ عَلَى الْأَيْتَامِ مِنْ إِخْوَتِهِمْ وَأَبْنَاءِ أَعْمَامِهِمْ، فَنَاقَضَتْ أَفْعَالُهُمْ أَقْوَالَهُمْ، وَأَيْضًا هم قد آذَوُا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَظَلَمُوهُ، وَهُوَ مِنْ ذَوِي رَحِمِهِمْ وَأَحَقُّ النَّاسِ بِصِلَتِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التَّوْبَة: 128] وَقَالَ: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمرَان: 164] . وَقَالَ: قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: 23] . وَعَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ يَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ تَتِمَّةً لِمَعْنَى الَّتِي قبلهَا.
[2]
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2)
مُنَاسَبَةُ عَطْفِ الْأَمْرِ عَلَى مَا قَبْلَهُ أَنَّهُ مِنْ فُرُوعِ تَقْوَى اللَّهِ فِي حُقُوقِ الْأَرْحَامِ، لِأَنَّ الْمُتَصَرِّفِينَ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ هُمْ أَهْلُ قَرَابَتِهِمْ، أَوْ مِنْ فُرُوعِ تَقْوَى اللَّهِ الَّذِي يَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَبِالْأَرْحَامِ فَيَجْعَلُونَ لِلْأَرْحَامِ مِنَ الْحَظِّ مَا جَعَلَهُمْ يُقْسِمُونَ بِهَا كَمَا يُقْسِمُونَ بِاللَّهِ. وَشَيْءٌ هَذَا شَأْنُهُ حَقِيقٌ بِأَنْ تُرَاعَى أَوَاصِرُهُ وَوَشَائِجُهُ وَهُمْ لَمْ يَرْقُبُوا ذَلِكَ.
وَهَذَا مِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً ... [النِّسَاء: 1] .