وَقَدْ شَمِلَ قَوْلُهُ (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) الْعِبْرَةَ بِهَذَا الْخَلْقِ الْعَجِيبِ الَّذِي أَصْلُهُ وَاحِدٌ، وَيَخْرُجُ هُوَ مُخْتَلِفَ الشَّكْلِ وَالْخَصَائِصِ، وَالْمِنَّةُ عَلَى الذُّكْرَانِ بِخَلْقِ النِّسَاءِ لَهُمْ، وَالْمِنَّةُ عَلَى النِّسَاءِ بِخَلْقِ الرِّجَالِ لَهُنَّ، ثُمَّ مَنَّ عَلَى النَّوْعِ بِنِعْمَةِ النَّسْلِ فِي قَوْلِهِ: وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الِاعْتِبَارِ بِهَذَا التَّكْوِينِ الْعَجِيبِ.
وَالْبَثُّ: النَّشْرُ وَالتَّفْرِيقُ لِلْأَشْيَاءِ الْكَثِيرَةِ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة: 4] .
وَوَصَفَ الرِّجَالَ، وَهُوَ جَمْعٌ، بِكَثِيرٍ، وَهُوَ مُفْرد، لأنّ كثير يَسْتَوِي فِيهِ الْمُفْرَدُ وَالْجَمْعُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [146] . وَاسْتَغْنَى عَنْ وَصْفِ النِّسَاءِ بِكَثِيرٍ لدلَالَة وصف الرجل بِهِ مَا يَقْتَضِيهِ فِعْلُ الْبَثِّ مِنَ الْكَثْرَةِ.
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً.
شُرُوعٌ فِي التَّشْرِيعِ الْمَقْصُودِ مِنَ السُّورَةِ، وَأُعِيدَ فِعْلُ اتَّقُوا: لِأَنَّ هَذِهِ التَّقْوَى مَأْمُورٌ بِهَا الْمُسْلِمُونَ خَاصَّةً، فَإِنَّهُمْ قَدْ بَقِيَتْ فِيهِمْ بَقِيَّةٌ مِنْ عَوَائِدِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَشْعُرُونَ بِهَا،
وَهِيَ التَّسَاهُلُ فِي حُقُوقِ الْأَرْحَامِ وَالْأَيْتَامِ.
وَاسْتَحْضَرَ اسْمَ اللَّهِ الْعَلَمَ هُنَا دُونَ ضَمِيرٍ يَعُودُ إِلَى رَبِّكُمْ لِإِدْخَالِ الرَّوْعِ فِي ضَمَائِرِ السَّامِعِينَ. لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَشْرِيعٍ يُنَاسِبُهُ إِيثَارُ الْمَهَابَةِ بِخِلَافِ مَقَامِ قَوْلِهِ: اتَّقُوا رَبَّكُمُ فَهُوَ مَقَامُ ترغيب. وَمعنى تَسائَلُونَ بِهِ يَسْأَلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِهِ فِي الْقَسَمِ فَالْمُسَايَلَةُ بِهِ تُؤْذِنُ بِمُنْتَهَى الْعَظَمَةِ، فَكَيْفَ لَا تَتَّقُونَهُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُور تسائلون- بِتَشْدِيدِ السِّينِ- لِإِدْغَامِ التَّاءِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ تَاءُ التَّفَاعُلِ فِي السِّينِ، لِقُرْبِ الْمَخْرَجِ وَاتِّحَادِ الصِّفَةِ، وَهِيَ الْهَمْسُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَعَاصِمٌ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: تَسَاءَلُونَ- بِتَخْفِيفِ السِّينِ- عَلَى أَنَّ تَاءَ الِافْتِعَالِ حُذِفَتْ تَخْفِيفًا.
وَالْأَرْحامَ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِالنَّصْبِ- عَطْفًا عَلَى اسْمِ اللَّهِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ- بِالْجَرِّ- عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ. فَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ يَكُونُ الْأَرْحَامَ مَأْمُورًا بِتَقْوَاهَا عَلَى الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ أَيِ اتِّقَائِهَا، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيِ اتِّقَاءِ حُقُوقِهَا، فَهُوَ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرِكِ