الْأَسْمَاءِ الْجَامِدَةِ غَالِبًا نَحْوَ الْكَوْكَبِ، وَالْجَوْرَبِ، وَالْحَوْشَبِ وَالدَّوْسَرِ (?) ، وَلَا تَدُلُّ فِي الْجَوَامِدِ عَلَى غَيْرِ مُسَمَّاهَا، وَلَمَّا وَقَعَ هُنَا فِيهَا مَادَّةُ الْكُثْرِ كَانَتْ صِيغَتُهُ مُفِيدَةً شِدَّةَ مَا اشْتُقَّتْ مِنْهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ زِيَادَةَ الْمَبْنَى تُؤْذِنُ بِزِيَادَةِ الْمَعْنَى، وَلِذَلِكَ فَسَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بِالْمُفْرِطِ فِي الْكَثْرَةِ، وَهُوَ أَحْسَنُ مَا فُسِّرَ بِهِ وَأَضْبَطُهُ، وَنَظِيرُهُ: جَوْهَرٌ، بِمَعْنَى الشُّجَاعِ كَأَنَّهُ يُجَاهِرُ عَدُوَّهُ، وَالصَّوْمَعَةُ لِاشْتِقَاقِهَا مِنْ وَصْفِ أَصْمَعَ وَهُوَ دَقِيقُ الْأَعْضَاءِ لِأَنَّ الصَّوْمَعَةَ دَقِيقَةٌ لِأَنَّ طُولَهَا أَفْرَطُ مِنْ غِلَظِهَا.
وَيُوصَفُ الرَّجُلُ صَاحِبُ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ بِكَوْثَرٍ مِنْ بَابِ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ كَمَا فِي قَوْلِ لَبِيدٍ فِي رِثَاءِ عَوْفِ بْنِ الْأَحْوَصِ الْأَسَدِيِّ:
وَصَاحِبُ مَلْحُوبٍ فُجِعْنَا بِفَقْدِهِ ... وَعِنْدَ الرِّدَاعِ بَيْتُ آخَرَ كَوْثَرُ
(مَلْحُوبٍ وَالرُّدَاعِ) كِلَاهُمَا مَاءٌ لِبَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، فوصف الْبَيْت بكوثر ولاحظ الْكُمَيْت هَذَا فِي قَوْلِهِ فِي مَدْحِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ:
وَأَنْتَ كَثِيرٌ يَا ابْنَ مَرْوَانَ طَيِّبٌ ... وَكَانَ أَبوك ابْن العقائل كَوْثَرَا
وَسُمِّيَ نَهْرُ الْجَنَّةِ كَوْثَرًا كَمَا فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ الْمُتَقَدَّمِ آنِفًا.
وَقَدْ فَسَّرَ السَّلَفُ الْكَوْثَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِتَفَاسِيرَ أَعَمُّهَا أَنَّهُ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فَقُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ هُوَ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ:
هُوَ مِنَ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ: الْكَوْثَرُ هُنَا: النُّبُوءَةُ وَالْكِتَابُ، وَعَنِ الْحَسَنِ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَعَنِ الْمُغِيرَةِ: أَنَّهُ الْإِسْلَامُ، وَعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ: هُوَ كَثْرَةُ الْأُمَّةِ، وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ: أَنَّهُ رِفْعَةُ الذِّكْرِ، وَأَنَّهُ نُورُ الْقَلْبِ، وَأَنَّهُ الشَّفَاعَةُ، وَكَلَامُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَرْوِيُّ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ لَا يَقْتَضِي حَصْرَ مَعَانِي اللَّفْظِ فِيمَا ذَكَرَهُ.
وَأُرِيدَ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ بِشَارَةُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِزَالَةُ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ فِي خَاطِرِهِ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ فِيهِ: هُوَ أَبْتَرُ، فَقُوبِلَ مَعْنَى الْأَبْتَرِ بِمَعْنَى الْكَوْثَرِ، إِبْطَالًا لِقَوْلِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ اعْتِرَاضٌ وَالْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى هَذِهِ الْبِشَارَةِ بِأَنْ يَشْكُرَ رَبَّهُِِ