لِ رَبِّكَ مِنْ قَوْلِهِ: جَزاءً مِنْ رَبِّكَ [النبأ: 36] والرَّحْمنِ نَعْتٌ ثَانٍ.
وَالرَّبُّ: الْمَالِكُ الْمُتَصَرِّفُ بِالتَّدْبِيرِ وَرَعْيِ الرِّفْقِ وَالرَّحْمَةِ، وَالْمُرَادُ بِالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا مُسَمَّاهَا مَعَ مَا فِيهَا مِنَ الْمَوْجُودَاتِ لِأَنَّ اسْمَ الْمَكَانِ قَدْ يُرَادُ بِهِ سَاكِنُهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها فِي سُورَةِ الْحَجِّ [45] ، فَإِنَّ الظُّلْمَ مِنْ صِفَاتِ سُكَّانِ الْقَرْيَةِ لَا صِفَةٌ لِذَاتِهَا، وَالْخَوَاءُ عَلَى عُرُوشِهَا مِنْ أَحْوَالِ ذَاتِ الْقَرْيَةِ لَا مِنْ أَحْوَالِ سُكَّانِهَا، فَكَانَ إِطْلَاقُ الْقَرْيَةِ مُرَادًا بِهِ كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ.
وَالْمُرَادُ بِمَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ كَائِنَاتٍ وَمَا فِي السَّمَاوَاتِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَمَا لَا يَعْلَمُهُ بِالتَّفْصِيلِ إِلَّا اللَّهُ وَمَا فِي الْجَوِّ مِنَ الْمُكَوِّنَاتِ حَيَّةٍ وَغَيْرِهَا مِنْ أَسْحِبَةٍ وَأَمْطَارٍ وَمَوْجُودَاتٍ سَابِحَةٍ فِي الْهَوَاءِ.
وَمَا مَوْصُولَةٌ وَهِيَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، وَقَدِ اسْتُفِيدَ مِنْ ذَلِكَ تَعْمِيمُ رُبُوبِيَّتِهِ عَلَى جَمِيعِ الْمَصْنُوعَاتِ.
وَأُتْبِعَ وَصْفُ رَبِّ السَّماواتِ بِذِكْرِ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَهُوَ اسْمُ الرَّحْمنِ وَخُصَّ بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى لِأَنَّ فِي مَعْنَاهُ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ مَا يُفِيضُهُ مِنْ خَيْرٍ عَلَى الْمُتَّقِينَ فِي الْجَنَّةِ هُوَ عَطَاءُ رَحْمَانَ بِهِمْ.
وَفِي ذِكْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ الْجَلِيلَةِ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ إِذْ أَنْكَرُوا اسْمَ الرَّحْمَنِ الْوَارِدِ فِي الْقُرْآنِ كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ [الْفرْقَان: 60] .
لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالًا مِنْ مَا بَيْنَهُمَا لِأَنَّ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَشْمَلُ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَاقِلَةِ، أَوِ الْمَزْعُومِ لَهَا الْعَقْلُ مِثْلَ الْأَصْنَامِ، فَيُتَوَهَّمُ أَنَّ مِنْ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ مَنْ يَسْتَطِيعُ خِطَابَ اللَّهِ وَمُرَاجَعَتَهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِإِبْطَالِ مَزَاعِمِ الْمُشْرِكِينَ أَوْ لِلِاحْتِرَاسِ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّ مَا تُشْعِرُ بِهِ صِلَةُ رَبٍّ مِنَ الرِّفْقِ بِالْمَرْبُوبِينَ فِي تَدْبِيرِ شُؤُونِهِمْ يُسِيغُ إِقْدَامَهُمْ عَلَى خِطَابِ الرَّبِّ.