عَنْ ذِكْرِنَا، أَوْ عَنْ ذِكْرِي، لِاقْتِضَاءِ الْحَالِ الْإِيمَاءَ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ فَإِنَّ الْمُعْرِضَ عَنْ رَبِّهِ الَّذِي خَلَقَهُ وَأَنْشَأَهُ وَدَبَّرَهُ حَقِيقٌ بِأَنْ يُسْلَكَ عَذَابًا صَعَدًا.
وَالصَّعَدُ: الشَّاقُّ الْغَالِبُ، وَكَأَنَّهُ جَاءَ مِنْ مَصْدَرِ صَعِدَ، كَفَرِحَ إِذَا عَلَا وَارْتَفَعَ، أَيْ صَعِدَ عَلَى مَفْعُولِهِ وَغَلَبَهُ، كَمَا يُقَالُ: عَلَاهُ بِمَعْنَى تَمَكَّنَ مِنْهُ، وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ [الدُّخان: 19] .
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نَسْلُكْهُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ فَفِيهِ الْتِفَاتٌ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ يَسْلُكْهُ بِيَاءِ الْغَائِبِ فَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ يَعُودُ إِلَى ربّه.
[18]
وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18)
اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ الْعَشَرَةُ عَلَى فَتْحِ الْهَمْزَةِ فِي وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَرْفُوعِ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ [الْجِنِّ: 1] ، وَمَضْمُونُهَا مِمَّا أُوحِيَ بِهِ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمِرَ بِأَنْ يَقُولَهُ. وَالْمَعْنَى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ، فَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مَعَ أَنَّ وَاسْمِهَا وَخَبَرِهَا نَائِبُ فَاعل أُوحِيَ [الْجِنّ: 1] .
وَالتَّقْدِيرُ: أُوحِيَ إِلَيَّ اخْتِصَاصُ الْمَسَاجِدِ بِاللَّهِ، أَيْ بِعِبَادَتِهِ لِأَنَّ بِنَاءَهَا إِنَّمَا كَانَ لِيُعْبَدَ اللَّهُ فِيهَا، وَهِيَ مَعَالِمُ التَّوْحِيدِ.
وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَمَلَ سِيبَوَيْهُ الْآيَةَ وَتَبِعَهُ أَبُو عَلِيٍّ فِي «الْحُجَّةِ» .
وَذَهَبَ الْخَلِيلُ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى حَذْفِ لَامِ جَرٍّ قَبْلَ أَنَّ، فَالْمَجْرُورُ مُقَدَّمٌ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَلِأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِلَّهِ لِلِاسْتِحْقَاقِ، أَيْ اللَّهُ مُسْتَحِقُّهَا دُونَ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ فَمَنْ وَضَعَ الْأَصْنَامَ فِي مَسَاجِدِ اللَّهِ فَقَدِ اعْتَدَى عَلَى اللَّهِ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا هُوَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا وَضَعُوا فِيهِ الْأَصْنَام والأنصاب وَجَعَلُوا الصَّنَمَ (هُبَلَ) عَلَى سَطْحِ الْكَعْبَةِ، قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها [الْبَقَرَة: 114] يَعْنِي بِذَلِكَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ.
وَهَذَا تَوْبِيخٌ لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى اعْتِدَائِهِمْ عَلَى حَقِّ اللَّهِ وَتَصَرُّفِهِمْ فِيمَا لَيْسَ لَهُمْ أَنْ