خروج الخليفة ووزرائه وكبار قومه إلى هولاكو وقتل التتار لهم

مع انهيار الأسوار الشرقية انهار الخليفة تماماً، فلم يبق من عمره إلا لحظات قليلة، فأشار عليه الوزير مؤيد الدين العلقمي أن يخرج بنفسه لمقابلة هولاكو؛ فلعله يقتنع هولاكو في مباحثات السلام، فذهبت الرسل من عند الخليفة إلى هولاكو تخبره بقدوم الخليفة، فأمر هولاكو أن يأتي الخليفة ومعه كبار رجال الدولة من الوزراء والفقهاء والعلماء وأمراء الناس وأعيانهم؛ حتى يحضروا جميعاً المفاوضات، وتصبح المفاوضات ملزمة للجميع، فلم يكن عند الخليفة اختيار، فجمع كبار قومه، وخرج في وفد مهيب إلى خيمة هولاكو ومعه (700) من قادة المسلمين وعلمائهم في بغداد، وخرج وقد تحجرت الدموع في عينيه، وتجمدت الدماء في عروقه، وتسارعت ضربات قلبه، فهذه أول مرة يخرج فيها بهذه الذلة والمهانة، فقد كان من عادته أن يستقبل في قصره وفود الأمراء والملوك، والآن يخرج بهذه الصورة، وكان ماشياً بجواره وزيره مؤيد الدين العلقمي الشيعي، فلما اقترب الوفد من خيمة هولاكو اعترضه فرقة من الحرس الملكي التتري قبل الدخول على هولاكو، ولم يسمحوا لكل الوفد بالدخول على هولاكو، وقالوا: سيدخل الخليفة ومعه (17) رجلاً فقط، وأما الباقي فعليهم الخضوع للتفتيش الدقيق، فدخل الخليفة ومعه (17) من رجاله، وحجب عنه بقية الوفد، ولكنهم لم يخضعوا للتفتيش، بل أخذوا جميعاً للقتل، فقتل الوفد بكامله إلا الخليفة ومن كان معه في داخل الخيمة، فقتل كبراء القوم ووزراء الخلافة وأعيان البلد وأصحاب الرأي، وفقهاء وعلماء الخلافة العباسية، ولم يقتل الخليفة؛ لأن هولاكو كان يريد استخدامه في أشياء أخرى، وبدأ هولاكو يصدر الأوامر في عنف وتكبر، واكتشف الخليفة أن وفده قد قتل بكامله، واكتشف ما كان واضحاً لكل الخلق ولم يره هو إلا الآن، اكتشف أن التتار وأمثالهم لا عهد لهم ولا أمان، {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:10].

واكتشف أيضاً أن الحق لابد له من قوة تحميه، وإن تركت حقك دون حماية فلا تلومن إلا نفسك، ولكن هذا الاكتشاف جاء متأخراً للأسف، وبدأ السفاح هولاكو يصدر الأوامر الصارمة: الأول: على الخليفة أن يصدر أوامره لأهل بغداد بإلقاء أي سلاح، والامتناع عن أي مقاومة، وكان هذا أمراً سهلاً؛ لأنه لا يوجد شخص في المدينة رافعاً للسلاح.

الأمر الثاني: تقييد الخليفة المسلم وسوقه إلى المدينة يرسف في أغلاله؛ لكي يدل التتار على كنوز العباسيين.

الأمر الثالث: قتل ولدي الخليفة أمام عينه: أحمد وعبد الرحمن، ما كان اسمهما: عدي وقصي، وإنما أحمد وعبد الرحمن.

الأمر الرابع: أسر أخوات الخليفة الثلاث: فاطمة، وخديجة، ومريم.

الأمر الخامس: أن يكتب ابن العلقمي أسماء علماء السنة وحملة القرآن وخطباء المساجد داخل بغداد، ثم أمر بإخراجهم مع أولادهم ونسائهم إلى مكان خارج بغداد بجوار المقابر، فكان ينام العالم على الأرض ويذبح كما تذبح الشياة، ثم تؤخذ نساؤه وأولاده سبايا أو للقتل، فكانت مأساة بكل المقاييس، وقد ذبح على هذه الصورة أستاذ دار الخلافة الشيخ محيي الدين يوسف ابن العالم الإسلامي المشهور ابن الجوزي رحمه الله، وذبح أولاده الثلاثة معه: عبد الله وعبد الرحمن وعبد الكريم، وذبح المجاهد مجاهد الدين أيبك وزميله سليمان شاه، وذبح شيخ الشيوخ ومؤدب الخليفة ومربيه صدر الدين علي بن النيار، ثم ذبح بعد ذلك خطباء المساجد والأئمة وحملة القرآن، والخليفة حي يشاهد هذا، فيا ترى كم من الألم والندم والخزي والرعب الذي كان يشعر به الخليفة؟! ولو تخيل الخليفة ولو للحظات أن العاقبة ستكون بهذه الصورة، فلا شك أن إدارته للبلاد ستختلف اختلافاً جذرياً، والأيام لا تعود، وهذه سنة الأيام، فألقى أهل المدينة السلاح وقتلت الصفوة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015