كان الخليفة يريد القليل من الوقت ليفكر، وهولاكو ليس عنده وقت.
كان هولاكو محاصراً لبغداد بجيوش تترية ضخمة تكلفه آلاف الدنانير كل يوم، وكان هذا الحصار في شهر محرم سنة (656) هجرية الموافق لشهر يناير سنة (1258) ميلادية في جو شديد البرودة، وفوق كل هذه الصعوبات كان هولاكو ينظر إلى بغداد ويرى الحلم الجميل الذي راود أجداده من قبل، حلم اجتياح بغداد وإسقاط الخلافة العباسية الإسلامية، فهو لن ينتظر وقتاً طويلاً، فبدأ يقصف بغداد بالقذائف الحجرية والنارية، ومع أول قذيفة سقط قلب الخليفة في قدمه، واستمر القصف على بغداد أربعة أيام متتالية.
وقد ذكر ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية موقفاً بسيطاً ولم يعلق على الموقف، ولكنه حمل معاني كثيرة، يقول ابن كثير: وأحاطت التتار بدار الخلافة يرشقونها بالنبال من كل مكان، حتى أصيبت جارية كانت تلعب بين يدي الخليفة وتضحكه، وكانت من جملة حظاياه، وكانت تسمى عرفة، جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهي ترقص بين يدي الخليفة.
فانزعج الخليفة من ذلك وفزع فزعاً شديداً، وأحضر السهم الذي أصابها بين يديه، فإذا عليه مكتوب: إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره، أذهب من ذوي العقول عقولهم، فأمر الخليفة عند ذلك بزيادة الاحتراز، وكثرة الستائر على دار الخلافة.
هذا الحدث ذكره ابن كثير ولم يعلق عليه، وهو وإن كان في ظاهره أمر بسيطاً عابراً، إلا أنه يحمل معاني هائلة عندي، فقد تمكنت الدنيا تماماً من قلوب الناس في بغداد، وأولهم الخليفة، فالخليفة الموكل إليه حماية هذه الأمة في هذا الموقف الخطير يسهر هذه السهرة اللاهية.
وقد تكون الجارية ملك يمينه حلالاً له، ولكن أتحاصر عاصمة الخلافة الإسلامية، والموت على بعد خطوات منها، والمدفعية المغولية تقصف بمنتهى العنف، والسهام النارية تحرق، والناس في ضنك شديد، والخليفة يستمتع برقص الجواري! أين العقل والحكمة؟ فقد أصبح رقص الجواري في الدماء، وصار كالطعام والشراب لابد منه حتى في وقت الحروب، ولا أدري والله كيف كانت نفسه تقبل أن تنشغل بمثل هذه الأمور، والبلاد والشعب وهو شخصياً في مثل هذه الضائقة، وما أبلغ العبارة التي كتبها التتار على السهم الذي أطلق على دار الخلافة، فقد اختيرت بعناية، فقد كتب عليه: إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره، أذهب من ذوي العقول عقولهم.
يعني: أن الله عز وجل قضى على بغداد بالهلكة في ذلك الوقت، وأذهب عقل الخليفة وعقل أعوانه وشعبه.
ولاشك أن هذه العبارات المنتقاة كانت نوعاً من الحرب النفسية المدروسة، التي يمارسها التتار بمنتهى المهارة على أهل بغداد، ويكفي دليلاً على قلة عقل الخليفة، أنه بعد قتل الجارية الراقصة لم يأمر الشعب بالتجهز للقتال، وإنما فقط أمر بزيادة الاحتراز! ولذلك كثرت الستائر حول دار الخلافة لحجب الرؤية، ولزيادة الوقاية، ولستر الراقصات، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
واستمر القصف على بغداد من يوم (1) صفر إلى (4) من صفر في سنة (656) من الهجرة، وفي (4) من صفر سقطت الأسوار الشرقية لبغداد وانهارت.