هذه ملاحظة أخيرة في غاية الأهمية: مع كل التطابقات السابقة بين السقوطين القديم والحديث للأمة الإسلامية، إلا أن هناك فارقاً هاماً جداً بين القصتين، وهو يبعث الأمل الكبير في النفوس، وينفي عنها الإحباط المقيت، وهذا الفارق هو وجود المقاومة للمعتدين الغازين في العصر الحاضر، فقد شاهدنا مقاومة ضارية من الشعب العراقي بعد انهيار الجيش، وبالذات في المثلث السني، وشاهدنا الضحايا من المغتصب الأمريكي، وفشلاً أمريكياً في اختراق صفوف المقاومة، وتعاطفاً من العالم الإسلامي مع المجاهدين العراقيين، وقلقاً أمريكياً واضحاً، سواء في القيادة أو في المعارضة أو في الشعب أو في الجنود، حتى وصل الأمر إلى انتحار بعض الجنود في صفوف الجيش الأمريكي في العراق، وكل هذه المشاهدات لم نرها في القصة القديمة.
وإذا راجعنا الوضع في فلسطين فسنجده متشابهاً مع ما ذكرناه الآن، ففي السابق لم نشاهد أي مقاومة للإمارات الإسلامية وقت سقوط الشام تحت أقدام الاحتلال التتري والصليبي، والآن نشاهد مقاومة ضارية في أرض فلسطين، ولم نشاهد اعترافاً أبداً بالوجود اليهودي في داخل أرض فلسطين إلا من طائفة من المنتفعين، وشتان بين أمة تقاوم وبين أمة تركع ولا تقاوم.
وكل هذه المشاهدات التي لم نرها في القصة القديمة يعطي انطباعاً واضحاً أننا الآن في وضع أفضل، وأن حالتنا لم تصل إلى الحالة المتردية التي كانت عليها الأمة أيام التتار، وهذا يبعث الأمل لا شك في النفوس، ويقوي العزيمة على القيام من جديد، ونصر الأمة -والله- آت لا محالة مهما طال الزمان وتعقدت الظروف، وإذا كانت الأمة قد استطاعت الخروج من أزمتها الطاحنة أيام التتار، فنحن إن شاء الله على الخروج من أزمتنا أقدر، والله عز وجل الذي أخرج قطز من بين صفوف المؤمنين قادر على إخراج أمثاله من بين صفوفنا، {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:88].
وقصة التتار وقصة عين جالوت دورتان طبيعيتان من دورات التاريخ، فالتاريخ من طبيعته أن يصعد بأمة إلى أعلى الدرجات ثم يهوي بها إلى أسفل السافلين، {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]، فقد صعد التتار ثم هبطوا، وهبط المسلمون ثم صعدوا، وسيكون بعد الصعود هبوط، وسيكون بعد الهبوط صعود، وهكذا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ونحن لا نعرض التاريخ لمشاهدة الصعود والهبوط فقط، ولكن لدراسة الأسباب التي أدت إلى رفعة قوم وإلى ذلة آخرين، والتاريخ كما ذكرنا يتكرر بصورة عادية، ومن قرأ التاريخ أضاف إلى خبراته خبرات السنين والأمم والزمان والمكان.