أما جنكيز خان فقد جهز جيشه من جديد، واخترق إقليم كازاخستان -وكازاخستان دولة حجمها ثلاثة ملايين كيلو متر مربع تقريباً، يعني: ثلاثة أضعاف دولة مصر- وقطعه دون مقاومة تذكر، حتى وصل إلى مدينة بخارى -وهي الآن في دولة أوزباكستان، وهي بلدة الإمام الجليل والمحدث العظيم البخاري رحمه الله- فحاصرها سنة (316هـ)، ثم طلب من أهلها التسليم على أن يعطيهم الأمان، وكان محمد بن خوارزم شاه بعيداً عنها في ذلك الوقت، فقد كان يعيش في أورجندة -وهي تقع في دولة تركمانستان المسلمة الآن- فاحتار أهلها ماذا يفعلون، ثم ظهر رأيان: الرأي الأول: قال أصحابه: نقاتل التتار وندافع عن مدينتنا.
الرأي الثاني: قال أصحابه: نأخذ الأمان ونفتح الأبواب للتتار؛ لتجنب القتل، وما أدرك هؤلاء أن التتار لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة، وهكذا انقسم أهل البلد إلى فريقين: فريق من المجاهدين قرروا القتال واعتصموا بالقلعة في المدينة، وانضم إليهم فقهاء المدينة وعلماؤها، وفريق آخر من المستسلمين -وهم الفريق الأعظم والأكبر في المدينة- قرروا فتح أبواب المدينة والاعتماد على أمان التتار، ففتحت المدينة المسلمة أبوابها للتتار، ودخل جنكيز خان إلى المدينة الكبيرة، وأعطى أهلها الأمان فعلاً في أول دخوله خديعة لهم؛ وذلك حتى يتمكن من السيطرة على المجاهدين في القلعة الكبيرة داخل المدينة، وبدأ جنكيز خان في حصار القلعة، وأمر جنكيز خان أهل المدينة من المسلمين أن يساعدوه في ردم الخنادق حول القلعة؛ ليسهل فتحها، فأطاعوه، ولا تستغربوا ذلك، فنحن نرى كثيراً من جيوش المسلمين يحاربون مع أعدائهم إخوانهم المسلمين، فحوصرت القلعة عشرة أيام، ثم فتحت عنوة، ولما دخلها جنكيز خان عليه لعنة الله قتل من فيها من المجاهدين جميعاً، ولم يبق فيها مجاهداً، وهنا بدأ جنكيز خان في خيانة عهده، فسأل أهل المدينة عن كنوزها وأموالها وذهبها وفضتها، واصطفى كل ذلك لنفسه، ثم أحل المدينة المسلمة لجنده، ففعلوا فيها ما لا يتخيله عقل.
يقول ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية مصوراً ما فعله التتار في بخارى: فقتلوا من أهلها خلقاً لا يعلمهم إلا الله عز وجل، وأسروا الذرية والنساء، وفعلوا مع النساء الفواحش في حضرة أهليهن، وارتكبوا الزنا مع البنت في حضرة أبيها، ومع الزوجة في حضرة زوجها، فمن المسلمين من قاتل دون حريمه حتى قتل، ومنهم من أسر فعذب بأنواع العذاب، وكثر البكاء والضجيج بالبلد من النساء والأطفال والرجال، ثم أشعلت التتار النار في دور بخارى ومدارسها ومساجدها فاحترقت المدينة تماماً، حتى صارت خاوية على عروشها.
انتهى كلام ابن كثير رحمه الله.
ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقد روى البخاري ومسلم عن أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: نعم، إذا كثر الخبث).
والخبث كان قد كثر جداً في هذه البلاد.
فمن الخبث ألا يرفع المسلمون سيوفهم ليدافعوا عن دينهم وأرضهم وعرضهم.
ومن الخبث أن يصدق المسلمون بعهود الكافرين لهم.
ومن الخبث أن يسلم المسلمون من رفعوا راية الجهاد فيهم إلى عدوهم.
ومن الخبث أن يتفرق المسلمون ويتقاتلوا فيما بينهم.
ومن الخبث ألا يحتكم المسلمون إلى كتاب ربهم وإلى سنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم.
هذا كله من الخبث.
وإذا كثر الخبث فلا بد أن تحدث الهلكة، وصدق الرسول الحكيم صلى الله عليه وسلم.
وهكذا هلكت بخارى في سنة (616هـ).
هذه أول صفحات القصة، وبداية الطوفان والإعصار، وستكون صفحات القصة القادمة أشد سواداً وأكثر دماءً، وسيدخل المسلمون فيها أسوأ وأظلم السنوات التي مرت على تاريخ المسلمين منذ بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى يومنا هذا، فماذا حدث في هذه السنة الرهيبة (617هـ)؟ وماذا فعل فيها التتار؟ وماذا فعل فيها المسلمون؟ وما هو مصير محمد بن خوارزم شاه الزعيم المسلم لدولة خوارزم الكبرى؟ وما هو مصير شعبه؟ وما هو مصير الدول الإسلامية المحيطة بدولة خوارزم؟ هذا ما سنعرفه وغيره إن شاء الله في الدرس القادم.
أسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يجعل لنا في التاريخ عبرة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44].
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.