قال يحيى بن معاذ: يا بن آدم طلبت الدنيا طلب من لا بد له منها، وطلبت الآخرة طلب من لا حاجة له إليها، والدنيا قَدْ كُفِيتَهَا وَإِنْ لَمْ تَطْلُبْهَا، وَالآخِرَةُ بِالطَّلَبِ منك تنالها، فاعقل شأنك يا بن آدَمَ، حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَأَنْتَ تَكْرَهُهَا، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ وَأَنْتَ تَطْلُبُهَا، فَمَا أَنْتَ إِلا كَالْمَرِيضِ الشَّدِيدِ الدَّاءُ، إِنْ صَبَرَتْ نَفْسُهُ عَلَى مَضَضِ الدَّوَاءِ اكْتَسَبَتْ بِالصَّبْرِ عَافِيَةَ الشِّفَاءِ، وَإِنْ جَزَعَتْ نَفْسُهُ مِمَّا يَلْقَى طَالَتْ بِهِ عِلَّتُهُ:

(وَفِي الشَّيْبِ مَا يَنْهَى الْحَكِيمَ عَنِ الصِّبَا ... إذا استوقدت نيرانه في عذاره)

(وأي امرىء يَرْجُو مِنَ الْعَيْشِ غِبْطَةً ... إِذَا اصْفَرَّ مِنْهُ الْعُودُ بَعْدَ اخْضِرَارِهِ)

(وَللَّهِ فِي عَرْضِ السَّمَوَاتِ جَنَّةٌ ... وَلَكِنَّهَا مَحْفُوفَةٌ بِالْمَكَارِهِ)

أَمِتْ نَفْسَكَ حَتَّى تُحْيِيَهَا، فَعَاقِبَةُ الصَّبْرِ حُلْوَةٌ.

كَمْ صَبَرَ بِشْرٌ عَنْ مُشْتَهًى حَتَّى سَمِعَ: كُلْ يَا مَنْ لَمْ يَأْكُلْ.

مَا مُدَّ سِجَافٌ: " نِعْمَ الْعَبْدُ " على قبة " ووهبنا له أهله " حَتَّى جُرِّبَ فِي أَمَانَةِ {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} .

إِنَّ الأَلَمَ لَيُحْمَدُ إِذَا كَانَ طَرِيقًا إِلَى الصِّحَّةِ، وَإِنَّ الصِّحَّةَ لَتُذَمُّ إِذَا كَانَتْ سَبِيلا إِلَى الْمَرَضِ، أَيُّ فَائِدَةٍ فِي لَذَّةِ سَاعَةٍ أَوْقَعَتْ غَمًّا طَوِيلا، مَا فَهِمَ مَوَاعِظَ الزَّمَانِ مَنْ أَحْسَنَ الظَّنَّ بِالأَيَّامِ، إِيَّاكَ أَنْ تَسْمَعَ كَلامَ الأَمَلِ فَإِنَّهُ غُرُورٌ مَحْضٌ:

(أَمَا تَرَى الدَّهْرَ لا يَبْقَى عَلَى حَالٍ ... طَوْرًا بِأَمْنٍ وَطَوْرًا جَا بِأَوْجَالِ)

(مَتَى بَانَ الْفَتَى قَالُوا دَنَا أَجَلٌ ... يَا هَلْ أَرَى فِي اللَّيَالِي غير آجال)

(بذل يؤول إِلَى مَنْعٍ وَعَافِيَةٌ ... تَجُرُّ دَاءً وَنَكْسٌ بَعْدَ إِبْلالِ)

(وَمَا سُرِرْتُ بِأَيَّامِ الْكَمَالِ فَمَا ... تَنَاقَصُ الشَّيْءُ إِلا عِنْدَ إِقْبَالِ)

(نُلْقِي الْمَخَاوِفَ فِي الدُّنْيَا وَنَأْمَنُهَا ... وَنَطْلُبُ الْعِزَّ فِي الدُّنْيَا بِإِذْلالِ)

(وتستذم إلينا كل شارقة ... ومالها مُبْغِضٌ فِينَا وَلا قَالِي)

(لَذَاذَةٌ لَمْ تُنَلْ إِلا بِمُؤْلِمَةٍ ... وَصِحَّةٌ لَمْ تَدُمْ إِلا بِإِعْلالِ)

طور بواسطة نورين ميديا © 2015