أَمَا تَخَافُ يَا مَنْ لَمْ يَفِ لِمَوْلاهُ أَبَدًا أَنْ يَقُولَ فِي بَعْضِ خَطَايَاكَ: هَذَا فراق بيني وبينك.
كَانَ الْحَسَنُ شَدِيدَ الْخَوْفِ وَالْبُكَاءِ فَعُوتِبَ عَلَى ذلك فقال: وما يؤمنني أن يَكُونُ اطَّلَعَ عَلَيَّ فِي بَعْضِ زَلاتِي فَقَالَ: اذْهَبْ فَلا غَفَرْتُ لَكَ!
(لَعَلَّكَ غَضْبَانٌ وَقَلْبِي غَافِلٌ ... سَلامٌ عَلَى الدَّارَيْنِ إِنْ كُنْتَ رَاضِيَا)
أخبرنا ابن حَبِيبٍ , أَنْبَأَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي صَادِقٍ , أَنْبَأَنَا ابْنُ بَاكَوِيَةَ , حَدَّثَنَا أَبُو الْفَرَجِ الشُّرَيْحِيُّ , سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيَّ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى , حَدَّثَنَا ابْنُ مُوسَى الزَّاهِدُ , عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ: بَيْنَا أَنَا ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي الْجَبَّانِ إِذْ سَمِعْتُ حَزِينًا يُنَاجِي مَوْلاهُ وَيَشْكُو إِلَيْهِ مَا يَلْقَاهُ يَقُولُ:
سَيِّدِي! قَصَدَكَ عَبْدٌ رُوحُهُ لَدَيْكَ , وَقِيَادُهُ بِيَدَيْكَ , وَاشْتِيَاقُهُ إِلَيْكَ , وَحَسَرَاتُهُ عَلَيْكَ , لَيْلُهُ أَرَقٌ , وَنَهَارُهُ قَلَقٌ , وَأَحْشَاؤُهُ تَحْتَرِقُ , وَدُمُوعُهُ تَسْتَبِقُ شَوْقًا إِلَى رُؤْيَتِكَ , وَحَنِينًا إِلَى لِقَائِكَ , لَيْسَ لَهُ رَاحَةٌ دُونَكَ , وَلا أَمَلٌ غَيْرَكَ.
ثُمَّ بَكَى وَرَفَعَ طَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: سَيِّدِي؟ عَظُمَ الْبَلاءُ وَقَلَّ الْعَزَاءُ , فَإِنْ أَكُ صَادِقًا فَأَمِتْنِي. وَشَهَقَ شَهْقَةً فَحَرَّكْتُهُ فَإِذَا هُوَ مَيِّتٌ , فَبَيْنَا أَنَا أُرَاعِيهِ وَإِذَا بِجَمَاعَةٍ قَدْ قَصَدُوهُ فَغَسَلُّوهُ وَحَنَّطُوهُ وَكَفَّنُوهُ وَصَلَّوْا عَلَيْهِ وَدَفَنُوهُ وَارْتَفَعُوا نَحْوَ السَّمَاءِ فَأَخَذَنِي فِكْرٌ وَغَشِيَتْنِي غَشْيَةٌ فَلَمْ أُفِقْ إِلا بَعْدَ حِينٍ.
يَا سَالِكًا طَرِيقَ الْجَاهِلِينَ , رَاضِيًا بِلَعِبِ الْغَافِلِينَ , مَتَى نَرَى هَذَا الْقَلْبَ الْقَاسِيَ يَلِينُ , مَتَى تَبِيعُ الدُّنْيَا وَتَشْتَرِي الدِّينَ , واعجباً لِمَنْ آثَرَ الْفَانِيَ عَلَى مَا يَدُومُ , وَتَعَجَّلَ الْهَوَى وَاخْتَارَ الْمَذْمُومَ , وَدَنَتْ هِمَّتُهُ فَهُوَ حَوْلَ الْوَسَخِ يَحُومُ , وَأَقْبَلَ عَلَى الْقَبِيحِ نَاسِيًا يَوْمَ الْقُدُومِ , فَأَصْبَحَ شَرَّ خَاسِرٍ وَأَبْعَدَ مَلُومٍ.
(أَتَغُرُّنِي آمَالِيَهْ ... بَعْدَ الْقُرُونِ الْخَالِيَهْ)
(أَهْلُ الْمَرَاتِبِ وَالْمَنَاصِبِ ... وَالْقُصُورِ الْعَالِيَهْ)
(عَادَتْ لَهُمْ دُنْيَاهُمُ ... بَعْدَ الْمَوَدَّةِ قاليه)