رحل في طلب الحديث إلى أكثر محدِّثي الأمصار، وكتب بخراسان والجبال، ومدن العراق والحجاز والشام ومصر، وقدم بغداد، واجتمع إليه أهلها، واعترفوا بفضله، وشهدوا بتفرده في علم الرواية والدراية.
حكى أبو عبد اللَّه الحميديُّ في كتاب "جذوة المقتبس"، والخطيبُ في "تاريخ بغداد": أن البخاريَّ لما قدم بغداد، سمع به أصحاب الحديث، فاجتمعوا، وعمدوا إلى مئة حديث، فقلبوا مُتونها وأسانيدها، وجعلوا متنَ هذا الإسناد لإسناد آخر، ودفعوا إلى عشرة أنفس إلى كل رجل عشرة أحاديث، وأمروهم إذا حضروا المجلس: أن يلقوا ذلك على البخاري، وأخذوا الموعد للمجلس، فحضر المجلسَ جماعةٌ من أصحاب الحديث من الغرباء من أهل خراسان وغيرها من البغداديين، فلما اطمئن المجلس بأهله، انتدب إليه واحد من العشرة، فسأله عن حديث من تلك الأحاديث، فقال البخاري: لا أعرفه، فسأله عن آخر، فقال: لا أعرفه، فما زال يلقي عليه واحدًا بعد واحد حتى فرغ من عشرته، والبخاري يقول: لا أعرفه.
فكان الفقهاء ممن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعض؛ ويقولون: الرجل فهم، ومن كان منهم ضد ذلك، يقضي على البخاري بالعجز والتقصير وقلة الفهم.
ثم انتدب رجل آخر من العشرة، فسأله من تلك الأحاديث المقلوبة، فقال البخاري: لا أعرفه، فسأله عن الآخر، فقال: لا أعرفه، فلم يزل يلقي عليه واحدًا بعد واحد حتى فرغ من عشرته، والبخاري يقول: لا أعرفه.
ثم انتدب الثالث والرابع إلى تمام العشرة حتى فرغوا كلهم من الأحاديث المقلوبة، والبخاري لا يزيدهم على قوله: لا أعرفه.
فلما علم البخاري أنهم فرغوا، التفتَ إلى الأول منهم، فقال: أما حديثُك الأول، فهو كذا، وحديثك الثاني فهو كذا، والثالث والرابع على الولاء حتى أتى