ونستطيع إضافة سبب آخر حمل الجاحظ على وضع «البيان والتبيين» هو الرد على الشعوبية التي طعنت في بلاغة العرب وموهبتهم الخطابية. وقد كرس لهذه الغاية قسما لا بأس به من الكتاب (باب العصا في الجزء الثالث) .
ويمكننا القول إن كتاب البيان والتبيين أقدم وأهم محاولة لدراسة علم البيان وفلسفة اللغة. ويعتبر الجاحظ رائدا في هذا المضمار لمن جاء بعده أمثال ابن فارس وابن جني والسيوطي. وقد سبق فرديناد دي سوسر إلى القول بأن فقه اللغة يجب أن يكون فرعا من علم أوسع يشتمل على مختلف أنواع الدلالات سماه الجاحظ علم البيان حيث يقول: «والبيان اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى، وهتك الحجاب دون الضمير، حتى يفضي السامع إلى حقيقته ويهجم على محصوله، كائنا ما كان ذلك البيان، ومن أي جنس كان الدليل، لأن مدار الأمر والغاية التي يجري القائل والسامع إنما هو الفهم والإفهام. فبأي شيء بلغت الأفهام وأوضحت عن المعنى، فذلك هو البيان في ذلك الموضع» «1» .
وقد حصر الجاحظ أنواع البيان بخمسة لا تزيد ولا تنقص هي اللفظ والإشارة والعقد والخط والحال.
وهو يعتبر الإشارة بالجوارح كاليد والطرف والحاجب مرفقا كبيرا يعين الناس في أمور يحاولون سترها عن البعض دون البعض. ولولاها لم يستطيعوا التفاهم في معنى خاص الخاص «2» .
أما الخط أو الكتابة فهو وسيلة التبيين في الكتب، ونقل المعرفة عبر الزمان والمكان، ولولاه لا ندثر العلم. ومن ثم كانت أهمية الكتب وأفضليتها لأن الكتاب يدرس في كل زمان ومكان بينما لا يعدو اللسان سامعه «3» .