فإن مضيعة للزمان ولصفوه قال: وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بموت العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا" قال: فما أعظم حظ من بذل نفسه وجهدها في تحصيل العلم حفظاً على الناس. فإن هذه الأزمنة قد غلب على أهلها الكسل والملل وحب الدنيا. قال: ولم يزل علم الفقه كريماً يتوارثه الأئمة معتمدين على الأصلين: الكتاب والسنة، مستظهرين بأقوال السلف على فهم ما فيهما من غير تقليد، فقد نهى إمامنا الشافعي رضي الله عنه عن تقليده وتقليد غيره. وكانت تلك الأزمنة مملوءة بالمجتهدين، فكل صنف على ما رأى وتعقب بعضهم بعضاً، مستمدين من الأصلين الكتاب والسنة، وترجيح الراجح من أقوال السلف المختلفة، ولم يزل الأمر على ما وصفت إلى أن استقرت المذاهب المدونة، ثم استظهرت المذاهب الأربعة وهجر غيرها، فقصرت همم أتباعهم إلا قليلاً منهم. فقلدوا ولم ينظروا فيما نظر فيه المتقدمون من الاستنباط من الأصلين الكتاب والسنة، فقل المجتهدون، وغلب المقلدون، حتى صاروا ممن يروم رتبة الاجتهاد: يعجبون ويزدرون. ثم قال: ولم أزل مذ فتح الله عليّ بالاشتغال بعلم الشريعة، وفهم ما ذكرت من الاتفاق والاختلاف ودلالات الكتاب والسنة مهتماً بجميع ذلك أو ما يقاربه، توفيقاً من الله لمعاودة الأمر الأول وهو ما كان عليه الأئمة المتقدمون من استنباط الأحكام من الأصلين، مستظهرين بأقوال السلف فيها، طلباً لفهم معانيها، ثم يصار إلى الراجح منها بطريقة. ثم قال: وإنما وضع الشافعي رضي الله عنه وغيره من الأئمة الكتب، إرشاداً للخلق إلى ما ظنه كل واحد منهم صواباً، لا أنهم أرادوا تقليدهم ونصرة أقوالهم كيفما كانت، فقد صح أن الشافعي رضي الله عنه نهى عن تقليده وتقليد غيره، قال صاحبه المزني في أول مختصره: "اختصرت هذا من علم الشافعي، ومن معنى قوله، لأقر به على من أراده. مع إعلاميه نهيه عن تقليده وتقليد غيره، لينظر فيه لدينه، ويحتاط لنفسه" أي مع إعلامي من أراد علم الشافعي؛ نهى الشافعي له عن