اخترتم الجهل خوفاً من الوقوع في الجهل، كمن يقتل نفسه عطشاً وجوعاً خوفاً من أن يغص بلقمة، أو يشرف بشربة لو أكل وشرب. وكمن يترك التجارة والحراثة خوفاً من نزول صاعقة، فيختار الفقر خوفاً من الفقر.

الشبهة الثانية: تمسكهم بقوله تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر، الآية:4] والنظر فتح باب الجدل. قلنا: نهي عن الجدل بالباطل كما قال تعالى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [غافر، الآية:5] بدليل قوله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل، الآية:125] ، {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت، الآية:46] ثم إنا نعارضهم بقوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء، الآية:36] ، {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة، الآية:169] ، {إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف، الآية:86] ، {وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف، الآية:81] {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة، الآية:111] هذا كله نهي عن التقليد، وأمر بالعلم. ولذلك عظم شأن العلماء، فقال تعالى: {يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة، الآية:11] وقال صلى الله عليه وسلم: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين" ولا يحصل هذا بالتقليد، بل بالعلم. وقال ابن مسعود: "ولا تكونن إمعة. قيل: وما الإمعة؟ قال: أن يقول: أنا مع الناس إن ضلوا ضللت وإن اهتدوا اهتديت، ألا لا يواطنن أحدكم نفسه أن يكفر إن كفر الناس"هذا كلام الغزالي.

قلت: وقد أشار إلى حمل الحديث المذكور على المجتهدين، فإن كان خيراً –كما هو ظاهر اللفظ واحد القولين في الحديث- دل على أنه لا يخلو العصر عن مجتهد، وإن كان أمراً بتقدير اللام، أي ليحمل، كما هو قول جماعة في الحديث دل على أن الاجتهاد في كل عصر فرض، وأنه لا يجوز شرعاً خلو عصر من الأعصار عنه. وعن ابن مسعود أثر أصرح في ذم التقليد من الأثر المذكور، وهو ما أخرجه البيهقي في سننه عنه، قال: "لا تقلدوا دينكم الرجال".

طور بواسطة نورين ميديا © 2015