طريق المباهاة والضخامة مدينة الزاهرة) ذات القصور، والمتنزهات المخترعة كذات الواديين، ومنية السرور، وأرطانية، وغيرها من منشئاته البديعة.
قال ابن حزم: كنا مع المنصور، في يوم صقيل الجو، في الزورق، في النهر الذي بين يدي الزاهرة، في نفر من وزرائه، ومنظر يفنن بأمامه وورائه، ونحن على مؤانسة قد امتد طنبها، وارتشف بها لعس المسرة وشنبها، وانحشر إليها لهو الدنيا ولعبها؛ وهو يستبدع ذلك النشيد، ويتطلع منها إلى المزخرف والمشيد، ويصوب نظره ويصعده في قصوره المشرقة، ومصانعه المونفة، وقد قيدت الألحاظ جمالا، وجددت في الحياة آمالا. فقال المنصور: (وبها لك! يا زاهرة الحسن. لقد حسن مرءاك، وعبق ثراك، وراق منظرك، وفاق مخبرك، وطاب تربك، وعذب شربك! فليت شعري من المربد الذي يعدمك، يوهن ركنك ويهدمك، ويخلي ميدانك، ويضوي قصبك وأفنانك! فبؤسا له إذ لا يروقه حسنك، فيكف عن تغييرك! ألا تسببه بهجة منظرك، فكيف عن محو أثرك!) قال: فاستعظمنا ذلك منه، وأنكرنا ما صدر عنه، وظننا أن الراح غلبت عليه، وخيلت ذلك عليه؛ فأفرط الكل مما في استنكار ما جاء به، وفاه بأمره وسببه؛ فقال: (والله! كأنكم لا تعلمون ذلك! نعم! سيظهر عليها عدونا في أٌقرب مدة، فيهدم هذا كله ويعدمه. وكأني بحجارتها في هذا النهر!) فأخذنا به طريق التسكين والتهدين، وعجبنا لما ذكره من ذلك النبأ المبين.
وعند فراغه من ابتناء الزاهرة، غزا غزوة أبعد فيها الإيغال، وغال فيها من عظماء الروم من غال، وحل من أرضهم ما لم يطرق، وراع منهم ما لم يرع قط ولم يفرق، وصدر صدرا أسمى به على كل حسناء عقيلة، وجلا به كل صفحة للحسن صقيلة، ودخل قرطبة دخولا لم يعهد، وشهد له فيه يوم لم يشهد. وكان ابن شهيد متخلفا عن هذه الغزوة لنقرس عداه عائده، وجفاه منتجعه ورائده.