الأمير إلى مطلبه بأكبد الأيمان؛ وكتب له بذلك مبادرا عقد أمان، وقطع لأولاده أرفع الثياب؛ وأوفرت لهم الدواب، بالأموال والأسباب، إسباغا عليهم بالإفضال، وتوسيعا لهم في الأماني والآمال. وسألا اللعين مائة بغل يحمل عليها جملة متاعه وعياله، وجعل طلبها قوة لمكره واحتياله. فأمر الأمير بالبغال أن تحمل إليه، وتوضع بين يديه؛ وقد جعل عليها عشرة من العرفاء بمائة وخمسين فارسا إتماما للإكرام، وإنعاما على إنعام. فأرسل عمر بن حفصون جميعهم إلى بربشتر حيث أهله وولده، وطريفة من المال ومتلده. وانحل العسكر عن الحصن إذ ذاك، وقفل القاضي والفقهاء عن تمام الصلح من هناك، وظنهم قد غلب أن لا كذب ولا مين، وأن قد نيل من الراحة من شغبه أملا وقرة عين. فلما انفض جمع ذلك العسكر، وانتفض ذلك المعسكر، ودخل الليل، وامتد للفاتك الذَّبل، هرب عمر بن حفصون من ذلك الحصن، وسار إلى بربشتر في ظل الأمن. فلقي العرفاء؛ فناصبهم القتال، وأخذ تلك البغال، وعاد إلى سيرته الأولى، وقال لشيعته: [أنا ربكم الأعلى!] فأقسم الأمير المنذر أن يقصده ويحل عليه، ولا يقبل منه أو يلقى بيده إليه؛ فأعمل الغزو إلى بربشتر، وجمع لها الجمع الأكبر. فلما احتل عليها، أمر أن يحدق بها، ويحاط بجوانبها، وأن يعتزم لقتالها اعتزاما، ويلتزم محاصرتها التزاما.
فظهر من حزم الأمير المنذر وعزمه ما يئس معه ابن حفصون، من البقاء في تلك الحصون. فبقى الأمير على حصن بربشتر، برومه روما، مدة من ثلاثة وأربعين يوما. وكان قد أصابته علة أكرثت نفسه، وكدرت أنسه؛ فبعث في أخيه عبد الله لينوب منابه، وينتدب في تلك الحال انتدابه. فلما وصل إليه، وحصل في المظلة لديه، خرجت في الحين روحه، وبكاه من كان يغدوه ويروحه. فوقع الخرم في العسكر إثر موته، وتفرق الناس عند فوته. ولم يقدر أخوه عبد الله على ضبطهم، وعقد ما انحل من ربطهم. واستطال عمر بن حفصون