العروش وخرَّتْ لعظمته أعظم التيجان، ثم ظهر سيد قريش، فلم يلبث أن انتشر دينه وعمَّت دعوته، وأصبح سيد العالم، وأصبحت «عرفة» تشهد مئات الألوف يأتونها مكشوفي الرؤوس لا يحملون معهم دنياهم ولا يلوون على شيء وراءهم، ولا يميّز بينهم فقرٌ أو غِنىً ولا يفرّق أفرادَهم جاهٌ أو منصب، يأتونها وقد تجردوا من كل شيء، يأتون إلى الله فيقفون بين يديه في حِجْر الطبيعة الواسع فينادون: لبّيك اللهم لبيك! فلا يبقى في العالم صخرة ولا شَعْفَة، ولا حجر ولا مَدَر، ولا نبت ولا شجر، إلا ويردد: لبيك اللهم لبيك!
* * *
هنالك تخشع القلوب وتموت المطامع وتخنس الشياطين، ولا يبقى إلا الفضيلة ترفرف على رؤوس الناس فيتصلون بالعالم الآخر، عالم العواطف والأفكار، عالم السماء.
أي رجل يرى هذا المنظر ويشهد هذا المشهد ثم لا تهزّه روح الاجتماع، روح الاتحاد والتديّن، فيضحي في سبيل المجموع بكل شيء؟ أي رجل قاسي القلب ميت العاطفة، يستطيع أن يقف بقلبه ساكناً لا يحركه هذا التيار الذي يجري في القلوب، فيوحد غاياتها ويجمع آمالها ويسوقها في طريق واحدة إلى هدف واحد؟
أي مؤتمر؟ أي جمعية أمم؟ أي محكمة دولية تملك من قلوب الناس وأفئدتهم، وتعمل على تعميم السلام بينهم ونزع الأحقاد من أكبادهم، كما تملك وتعمل عرفة بموقفها المتواضع الساذج؟ اللهمّ إنها حكمة سامية، وسبب عظيم من أسباب قوتنا