البواكير (صفحة 297)

وإذا كان قبل اليوم ما يمنعني من الثناء على الأستاذ والتحدث عن أدبه، وإذا كان قبل اليوم ما يحفزني إلى نقد آثاره والإيغال في هذا النقد حتى أجاوز به حدَّ النقد، وإذا كانت عزة النفس وخشية أن يُظَنّ بي المَلَق والتزلف (وأنا من أكره الناس لهما) ... إذا كان هذا ما منعي قبل اليوم من الثناء وساقني إلى النقد، فإن الوفاء والحق يوجبان عليّ اليوم أن أتكلم عن أدب الأستاذ فأطيل الكلام ولا أتحرج من الثناء.

وإذا كان لجبري «الموظف الكبير» خصوم وأصدقاء وناقمون عليه وراضون عنه، فما لجبري «الأديب الكبير» خصم ولا عليه ناقم، إلا أن تكون خصومة أدبية في الظاهر ومردّها إلى الوظيفة وما يتصل بالوظيفة. وقد ذهبت تلك الوظيفة وذهبت معها تلك الخصومات، وأصبح من الواجب على كل من يمتُّ إلى الأدب بصلة أن يهنّئ الأستاذ بانقطاعه إلى الأدب، ويهنئ الأدب بانقطاع الأستاذ إليه ونجاته من هذه الوظيفة التي كانت - مذ كانت- بَلِيّة على الأدباء، مُقَيِّدةً أفكارَهم وعواطفهم، معترِضةً سبيلَهم إلى الخلود، صارِفةً نفوسَهم السامية إلى غير ما خُلقت له وفُطرت عليه.

وذهاب الوظيفة قد يكون رُزْءاً ومصيبة على الموظفين الذين لا يرتفعون عن سواد الناس إلا على قوائم الكرسي، أما الموظفون الذين ترفعهم نفوسهم ومواهبهم وآثارهم فلا يزيدهم فَقْدُ الوظيفة إلا رِفعة وسُمُوّاً. وقد خسر المتنبي الوظيفة التي كان يحلم بها، ولكنه ربح الخلود على الدهر والجلوس على عرش الشعر ألف سنة. وقد انتهت أيام حافظ إبراهيم في الوظيفة، ولكنه

طور بواسطة نورين ميديا © 2015