البواكير (صفحة 256)

أفكر في هذا، وإنك لتعلم -كما يعلم كثير من الناس- أنه يُطلَب إليّ أن ألقي الخطبة ارتجالاً في أمر لم أُعِدَّ له شيئاً، فلا أتهيّب ولا أجزع ولا أحس بأن لفظاً أريده ناء عني، وأريد أن أقابل رجلاً ليس بيني وبينه أسباب متينة فأجزع وأعجز، ولا أجد لفظاً أردّ به هذه الجمل الطويلة العريضة التي يلقيها في وجهي مسلّماً ومجاملاً! فأنا جريء جداً إذا كتبت أو خطبت، ولكني خجول مضحك عَيٌّ إذا تكلمت أو قابلت إنساناً لا أعرفه، فكيف ألقى هذا الرجل الكبير؟

لقد فكرت في ذلك ليلة بطولها، ثم ذهبت قبل الموعد بساعات فانتظرت حول المكان، يقذفني شارع ليتلقاني شارع، ثم جاء صاحبي ودخلنا، فلم أدرِ كيف أجلس ولا عرفت كيف أسلّم عليه، ودارت الغرفة من حولي فاصطدمت بنَضَد عليه آنية، وحاولت الكلام فجاء متقطعاً خافتاً ... وخرجت ألعن فيّ هذا الحياء وأشتم من دَلَّ هذا الرجل عليّ، وأود لو تفتّحت لي الأرض فغصت فيها أو أويت إلى ركن مظلم لا ألقى فيه إنساناً!

* * *

لقد فكرت في هذا كله والقلم في يدي أريد أن أكتب إليك، وفي يدي الأخرى دعوة معالي الأستاذ الرئيس، تميل نفسي إلى إجابتها والتعرف بالكاتب الكبير، ثم أخشى الفضيحة فأنفر منها وأزمع الاعتذار إليه! فكرت في هذا كله فأحسست في نفسي الألم والضيق، فقمت أفتح شبّاكي وأطلّ منه على شارع بغداد المظلم الموحش، الذي حَرَمته «البلدية» من نور يكشف ما فيه من خزي

طور بواسطة نورين ميديا © 2015