الشعور بالاستيحاش وأني غريب عن القوم، وسَرَتْ إليهم كآبتي فوَجَموا، وساءني وجومهم وزعمت أن فيه معنى النَّفرة مني وإنكاري، فاعتقدت أن انسحابي واجب، وقمت أريد الذهاب ولا أحسن له الاعتذار، ولا أستمع لما يُلقون من أسئلة وعبارات بل أمضي مسرعاً لا أعقِّب، أحمدُ الله في نفسي على أنّي نجوت منهم ونجوا مني، وإن كنت أعلم أنهم سيضحكون مني ما شاؤوا ويتندرون بي ما أرادوا.
وهذا أنا أبداً؛ ألتقي بالناس وأُخلص لهم الود وأجاريهم في تفكيرهم وأحاديثهم، حتى إذا حسبتُني قد سكنت إليهم واطمأننت إلى صحبتهم هاج نفسي شيء من الأشياء فعادت إلى نِفارها، ورجعت إلى أنسي بالعزلة واستيحاشي من الناس، حتى غدوت أعتقد أني إنسان متوحش، وحتى غدا من أصعب الصعب عليّ أن أضطر إلى لقاء إنسان لم ألقَه أو التعرف إلى كبير من الناس ... وها أنَذا أفكر الآن كيف أجيب الدعوة التي تفضل عليّ بها أستاذنا العلامة الجليل محمد كرد علي للتعرف بأديب كبير يزوره.
وأذكر أن واحداً من أجلّ وأكبر رجالنا تفضل مرة فدعاني، وذلك إبّان ازدهار دعوتي إلى العقال ونجاحها، وقد كُتب لها أن تنجح أمداً ليس بالقصير (?)، أقول إن هذا الرجل العظيم بعث يَسْتزيرُني، فتباطأت وتعلّلت -على رغبة في نفسي إلى زيارته- ثم لم أجد مخلصاً فضربت له موعداً ... ولك أن تثق أنّي قضيت ليلاً بطوله أفكر كيف ألقاه وماذا أقول له!