وشاكّ، ولكن الشك أغلب على نفسي لأن صديقي فلاناً الشاب المتأنق الذكي -الذي يفيض صحة ونشاطاً وتلمع عيناه بنور الأمل- يستحيل أن يكون ذلك الرجل المحطم المكدود، المتهدل الثياب الأصفر اللون الشارد النظرات، يقلب عينيه في الفضاء كالذي به جِنّة! يستحيل أن يخمد نور ذكائه وتنطفئ أشعة أمله وتحطمه السنون وهو في هذه السن!
ولكنه كان هو! ولم يدرك معنى سؤالي إياه، ولم يتبين وجهي إلا بالجهد، فلما عرفني بكى وفتح فمه ليقول، ولكن القطار بدأ يتحرك فلم أسمع منه إلا هذه الكلمة: "لقد عيّنوني في هذه القرية، فانهارت آمالي ومتُّ من قبل الممات" ... ورأيته وهو يمسح بيده دموعَه ويوليني ظهره ليعود إلى ذهوله وحيرته، ثم توارى عني ... وصفر القطار.
* * *
وقذفت بي الأيام مرة إلى حوران أمر بها في القطار في طريقي إلى مصر، وكنت ممتلئ النفس ألماً وحزناً على فراق موطني والابتعاد عن أهلي وأذكر كيف أعود إلى مصر وحيداً منفرداً، أقف على شاطئ النيل العظيم فأذكر بردى الصغير المتواضع المحبَّب إلي، وأعلو قمة المقطم الشيخ المحطم فأذكر قاسيون الشامخ الشاب ... فلا يلهيني هذا عن ذاك، فأحس في قلبي لوعة الأسى، وألقي برأسي بين يدي لا أرفعه إلا في محطة القطار إذ يقف، وأنظر فأرى رجلاً جالساً إلى إفريز المحطة رأسه على ركبته، فأحزن وأرثي لحاله وأقول في نفسي: لعله بائس أو فقير! ويعاود القطار سيره وأنا أفكر في هذا الذي لا أعرفه،