تردد الفعل بين شيئين أو التخيير أو الإباحة؛ ولذا لم يشكَل العطف بتلك الأحرف، وهذا الذي ذكروه وإن كان لا يخلو من الصحة، إلا أننا لا نُعدم وجوهًا دقيقة وأسرارًا خفية نجدها كامنة وراء العطف بغير الواو، كما أننا لا نُعدم وجوهًا أدق وأسرارًا أخفى تكمن وراء عطف المفردات والجمل التي لها محل من الإعراب، انظر مثلًا إلى قول الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (المؤمنون: 12 - 14).
تجد أن الجمل قد وُصِلت في الآيات الكريمة بحرفي العطف ثم والفاء، ووراء الوصل بهذين الحرفين تكمن الدقائق واللطائف، فقد بدأت بالخلق الأول خلق آدم -عليه السلام- من طين، ولما أُريد وصله بالخلق الثاني -خلقِ التناسل- عطف عليه بـ ثم، لما بينهما من التراخي، ثم تحدثت الآيات عن أطوار الخلق فوصلت خلق العلقة بالنطفة بـ ثم لما بينهما من التراخي ثم توالت الأطوار؛ خلق المضغة فالعظام فكساء العظام لحمًا، موصولةً بالفاء حيث لم يكن هناك تراخٍ بينها، ثم وصل تسويته إنسانًا بكساء العظام لحمًا بحرف العطف ثم، إشارة إلى التراخي بينهم، كذا ذكره العلوي في (الطراز).
فإنك عندما تتأمل ما عطف بـ ثم، تجده أدق وأبعد مما عطف بالفاء، فقد نزّل الاستبعاد عقلًا أو رتبةً منزلة التراخي والبعد الحسي، فعطف بـ ثم، ونزّل القرب عقلًا أو رتبة منزلة القرب الحسي فعطف بالفاء، انظر في ذلك (روح المعاني) للألوسي ثم جاء قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (المؤمنون: 14)