زُرني وائتوني بصيغة الأمر، وذلك لأن التعبير بصيغة الخبر يحتمل الصدق والكذب، فلو أن الصديق لم يحضر لزيارة صديقه ألصق به الكذب، ونسبه إليه، وكذا التلاميذ إذا لم يأتوا كل صباح، كما أخبر أستاذهم نسبوه إلى الكذب وألصقوه به. وقد يقع الإنشاء في موقع الخبر لأغراض أهمها: الاهتمام بالشيء كما في قول الله تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (الأعراف: 29) والمعنى: وبإقامة وجوهكم عند كل مسجد، فعدل عن الخبر إلى صيغة الأمر؛ تنبيهًا إلى وجوب الاهتمام بالمأمور به والحرص على تحقيقه.
من ذلك: الرضا بالواقع حتى كأنه مطلوب، كما في قول النبي -صلى الله عليه وسلم: ((من كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار)). ومنه: الاحتراز عن مساواة اللاحق بالسابق، كما في قول الله تعالى: {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} (هود: 54) فالمعنى: إني أشهد الله وأشهدكم، فعدل عن ذلك إلى ما عليه النظم الكريم، من التعبير بصيغة الأمر: {وَاشْهَدُوا} احترازًا عن مساواة شهادتهم بشهادة الله -عز وجل. وفيه أيضًا تعظيم لهود -عليه السلام- وإعلاء لشأنه وتحقير لهؤلاء الكفرة المشركين، حتى يخضعوا ويذعنوا ويستجيبوا لما يأمرهم به.
ولعلنا بهذا نكون قد طوفنا معا حول ما عُرف لدى البلاغيين بأساليب الإنشاء، ووقفنا على كثير من الأسرار والنكات البلاغية التي تكتنفها هذه الأساليب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.